الديوان » السودان » عبد الوهاب لاتينوس » في الليل يتجمد الوقت

إلى/حبيبتي التي تتجرع مرارة الفقد بصمتٍ
بين جدرانِ وطنٍ تستعدي الحب والحياة!
في الليل يتجمّد الوقت ، يزحف السواد فوق جسد الحياة ، الحياة التي لا تشبه الحياة .
في الليل تشدّني الضحكات الهامسة التي سرعان ما تتبدد في حنجرةِ الصمت ، فتتلاشى وتنتهي .
حين يهبط الليل كأفعى في دغل إستوائي ، أكون مسكوناً بالرغبة المجنونة ، مسكوناً بكِ!
أحنُّ إليكِ ، إلى أمرأة ، كانت ذات يوم تعرف كيف تروّض صهيل الرغبة داخلي ، تعرف كيف تجتث جرثومة البؤس فيّ ، تعرف كيف تبكيني وتضحكني في آن .
آه كمْ أتوق إلى ممارسة الحبّ معكِ ، أن أقبّل شفاهكِ ، أن نحتضن بعضنا ، وننام بين جدران الليل!
أن أتوسّد نهدكِ الأيسر ، وألاطفكِ بلطيفِ همسٍ ، أتحسس جسدكِ بأصابع رعشى ، في وقتٍ يجلد المطر جسد الليل الغارق في العتمةِ والسكون المريب!
حيث تتسلل نسمة هواء بارد عبر زجاج النوافذ المطليّة بزخاتِ المطر الرمادي .
ما أجمل أن ننام عاريين من كل شيء ، من الملابس الثقيلة ، من وطأة القيم ، وضجيج المارة!
ها أنذا أكتب إليكِ أميرتي في خضم الوحدة التي تنهش روحي وتفتت قلبي وتحرق جسدي ..
أكتب إليكِ تحت وطأة ليلة مطيرة ، ليلة متشحة بالحزان والسواد المُرعب .
ما عساني أقول ؟ ما عساني أفعل تحت ثقل الحزن والحنين الجارف ، الحنين المنبعث من عمقِ أعماق الذاكرة ، الذاكرة المشحونة بجميلِ اللحظات!
" تأجيل السعادة هو فعل ضد السعادة ذاتها "
أَوَ تذكرين يا حلوتي كم مِن فرص السعادة التي أضعناها بسبب حماقة غير مبررة!
ماذا لو أستثمرنا كل الفرص المتاحة وأحلناها إلى سلل سعادة جذلى ؟ إلى ضحكات هامسة ، إلى شهقات ناضجة تضمد جراح الليل ، إلى أحضان وقُبل ترتق ثقوب الروح الطافق في التمدد .
أنني أتذكّر الأن ، حبيبتي ، البدايات الصعبة لوجودنا ، بداية الإرتباط المقدس مِن أجل سعادة محمّلة بالخطيئة ، سعادة موشومة بالعربدة والإنحطاط المريع في منطوق القيم المعجونة بالخراب الإلهي!
آه ! كم تعانيتُ في سبيل أن أنزع عنكِ قناع المجتمع ، قناع القيم وبهارج الأخلاق المتعارف عليها من قبل القطيع وهراء الدين الرجيم .
ليس من السهل أن تحب أمرأة بذاكرة مستلفة ، أمرأة بذاكرة مغتربة عنها ، لا تمت إليها بصلة قط .
أمرأة تنظر إلى كل شيء من منظار الآخرين وليس من منظارها هي ، ليس من صميم ذاتها المستقلة .
أمرأة بتفكيرٍ ملتوٍ ، تنظر إلى الحياة بزاوية متعرجة ، تنظر إلى كل شيء بصورة مقلوبة .
التعاطي مع القيم الموروثة أمرٌ في غاية الصعوبة ...
نظن في كثير أحيان ، أن تلك القيم هي قيمنا ، أو بالأحرى ، قيم من صميم صنيعنا ، ولكن في حقيقة الأمر ، ليس كذلك البتة .
نحن ندافع ، لا بل نسجن أنفسنا بين جدران قيم لا تمت إلينا بصلة قط ، ندافع عن قيم في الحقيقة هي ضدنا بكل أسف .
" كل شيء لا يتمحور حول سعادة الإنسان لا يعوّل عليه "
هذه البديهة قد توصّلتُ إليها باكراً ، مما مكنني من معرفة الإنسان والحياة بصورة أكثر عُرياً .
لكن ، والحق يقال : للحقيقة العارية ثمنها أيضاً ، لأنها مغتربة ، أو هي تظل في حالة إغتراب دائم عن القطيع!
في المجتمعات التي بلا ذاكرة ، أو فلنقل المجتمعات التي تعيش بذاكرة مستلفة ، بذاكرة ليست لها ، هي دائماً ما تكون على التضاد مع السعادة .
إذ فكرة السعادة دائماً ما تكون مع العُري التام ، مع التصالح مع الذات المحض حدّ التقمّص .
لستِ تدرِ كم من المقت الذي شعرتُ به ، كم من الإزدراء والإشمئزاز والتحقير نحو قيم تستعدي الحياة ، تحارب كل ما هو جميل في النفس البشري ، تحيل الكون إلى حفل بكاء ضاج ، إلى مأتم حزين!
آه ! اللعنة ! حين أحس بحاجتي إليكِ في ظلمة السكون المُوحش تحت غطاء حرير ناعم ، ولكنّي لا أجد إلى ذلك سبيلاً ، كم أشعر بتفاهة الإنسان ، بعهر القيم ، وإعتباطية الحياة!
ماذا يضير سدنة القيم والأخلاق في أن يتشارك عاشقان القُبل والعناق في زحمةِ الليل أو في وضحِ النهار ، بين جدران غرفة بسريرٍ واحدٍ ؟
لا أحد سيصاب بجلطة أو سكة قلبية ، حين يحتضن أحد العشاق جسد عشيقته ، حين يمطرها بالقُبل واللمسات الراعشة ، حين تصرخ وهي تغرز أصابعها في جسده حتى تدميه!
الحياة ستصير أفضل بالحب وحده ، بالسعادة وحدها .
نحن نعرف كيف نقتل الحب ، كيف نجتث بذرة السعادة ، أفضل من العيش ذاته .
فتوهُّم حياة أخرى ، هو توهُّم ضد السعادة
بل هو مصدر تعاستنا الأكيدة ، وبؤسنا الرجيم!
أعذرني حبيبتي ، لأنني طفقتُ أسرد في هراءٍ لعينٍ لا طائل منه ، ولكن ما عساني أفعل ، طالما أجدني غائص في وحلِ القيم اللزجة وشرانق الأخلاق!
صِدقاً ، سأكون أتعس إنسان في هذا الوجود ، لا لشيء سوى لأنني وُجدتُ في عالمٍ أشبه بكتابٍ مؤسطر لا يأتيه الباطل من بين يديه رغم الباطل الذي يحتويه!
آه! تعلمين ؛ كم أشتهيكِ الأن ، كم أشتهي جسدكِ تحت نثيث ضوء باهت ينسال من فانوسٍ يحتل زاوية الغرفة التي لا تسع غير سرير وأريكة وطاولة مخصصة للكتب وعطور الند ومنفضة سجائر .
أرمقكِ بعينٍ نصف مفتوحة ، وأنتِ تختالين على بساطِ الغرفة جيئةً وذهابا ، فتشتعل الرغبة داخلي ، تنغرز مخالب الشهوة في روحي ويحترق جسدي .
أحنُّ إليكِ ، إلى أمرأة ، في تكوّرِ ردفها تمتحن حكمة الله ، فيقع في براثن الخطيئة الدافئة ، في إستدارةِ نهدها تجعل مِن صعلوكٍ لعينٍ يعرف خطى الله ، بعد أن كان يبحر في محيط التيه بلا وجهة محددة!
الأن تتناهى إلى روحي اللهاث التي تتسلل عبر ستائر الغرف المستدلة في إنتصاف الليل .
الشهقات المسعورة التي تتقطر ، العرق الذي ينز من الأجساد الرهقى الملسوعة بالرغبة المجنونة .
أووووه ، أظنني بدأتُ أهذي! ...
لستُ أدري ما أقول ، تحت وطأة المنفى وثمالة الوحدة وأشواك الحنين المغروزة فيّ .
إذ نحن منبتون في المنافي ، لا أصل لنا ، لا تربة تصلح لجذورنا المنبتة من تربتنا العقيمة القاحلة .
ها هي ذي الحياة تصفعنا مرة أخرى ، توصد أبوابها عنّا
وهي ذي المنافي تتنكّر لنا كما الأوطان ، تعبث بأقدارنا!
في المنفى الحياة جيفة لا تطاق ، عفونتها تصدع رؤوسنا ، تشلّ قِوانا ، تثبط عزيمتنا ، فننهار دفعةً واحدة ، نتلاشى في فراغٍ أسودٍ مهول لا نهاية له .
ولكن والحق يقال ، إذ لا فرق ، في هذا الجحيم الشرقو/أوسطي بين الوطن والمنفى ، فالإغتراب هو السمة المشتركة بينهما رغم تباين الجغرافيا ..
أن تغترب في وطنكَ أو تتغرّب في المنفى ، سيان!
أمرٌ آخر ، حلوتي ، فكرة جهنمية بدأت تتملّك تفكيري ليل نهار ، هي أن لا دولة ستتحقق ، لا الأن ، لا في القريب ، ولا البعيد الذي لا يُرى ، طالما أننا لم نفك إرتباطنا الشاذ مع المومس السماوي!
كلام فيه الكثير من القسوة والشطط والغلو ، أليس كذلك ، ههههههه . أُدرك ذلك ، لكنه الحقيقة!!
عيبنا ، أننا لا نجيد ثقافة القطيعة مع الأشياء ، لا نعرف التجاوز ، لا نجيد الحركة البتة ، فنظل قابعين في ذات النقطة ، محنطين في ذات اللحظة أبد الدهر!!
أظن بأنه ليس هناك ما يُقال ، أو ربما لأنني لا أُريد إفساد هذه الرسالة ، بهراء السياسة وعهر القيم .
لا أريد أن تتحوّل هذه الرسالة إلى بيان سياسي بليد أو إلى تنظير إجتماعي بالغ التطرف .
لذا دعكِ عن كل ذلك ...
لستُ من جوقةِ الذين يؤمنون بعدالة الحب أو الثقة فيه ، بقدر ما أنني أؤمن بعدالة الظروف حبيبتي!
على كل ، لكِ قُبلاتي وأحضاني وكل الحب أيتها الشقية ..
إلى أن نطوي جسد الجغرافيا ونتلقي!

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن عبد الوهاب لاتينوس

avatar

عبد الوهاب لاتينوس حساب موثق

السودان

poet-abdel-wahab-latinos@

50

قصيدة

218

متابعين

الشاعر الشاب عبدالوهاب محمد يوسف المعروف باسمه الأدبي عبدالوهاب لاتينوس، ابن مدينة نيالا المولود في العام 1994م، درس الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة الخرطوم ،عضو مشروع الفكر الديموقراطى، ومجموعات القراءة من ...

المزيد عن عبد الوهاب لاتينوس

اقتراحات المتابعة

أضف شرح او معلومة