ضع قدمكَ الحجريةَ على قلبي يا سيدي
الجريمةُ تضرب باب القفص
والخوفُ يصدحُ كالكروان
ها هي عربةُ الطاغية تدفعها الرياح
وها نحن نتقدم كالسيف الذي يخترقُ الجمجمة
أيها الجرادُ المتناسلُ على رخام الكنيسة
أيتها السهولُ المنحدرة كمؤخرة الفرس
المأساةُ تنحني كالراهبة
والصولجان المذهَّبُ ينكسر بين الأفخاذ
كانوا يكدحون طيلة الليل
المومساتُ وذوو الأحذية المدبَّبة، في شارع ما من العالم
يعطرون شعورهم،
ينتظرون القطار العائد من الحرب
كان قطارا هائلاً وطويلاً
كنهر من الزنوج
يئن في أحشاءِ الصقيع المتراكم
على جثث القياصرة والأطفال
ينقل في ذيله سوقاً كاملاً من الوحل والثياب المهلهلة
ذلك الوحل الذي يغمرُ الزنزانات
والمساجد الكئيبة في الشمال
الطائرُ الذي يغني يُزجُّ في المطابخ
الساقيةُ التي تضحك بغزارة
يُربَّى فيها الدود، تتكاثرُ فيها الجراثيم
كان الدودُ يغمر المدارس والمستنقعات
خيطان رفيعة من التراب والدم
تتسلَّق منصّاتِ العبودية المستديرة
تأكل الشاي وربطات العنق وحديد المزاليج
من كل مكان، كان الدود ينهمرُ ويتلوى كالعجين
القمحُ ميت بين الجبال
وفي التوابيت المستعملة كثيراً في المواخير وساحات الإعدام
كانوا يعبئون شحنة من الأظافر الطويلة إلى الشرق
وفي سهول أوكرانيا التي تنبع بالحنطة والديدان
حيث الموتى يلقون على المزابل
كانت عجلاتُ القطار أكثر حنيناً إلى الشرق
كان يدوي ويزأر في السهول المعذّبة
يلهث ويتألق ذلك العريسُ المتقدم في السن.
ويخبط بذيله كالتمساح على وجه آسيا
كانوا يعدّون لها منديلاً قانياً في أماكنِ التعذيب
ومروحةً سميكةً من قشور اللحم في سيبريا
كثير من الشعراء يشتهون الحبر في سيبريا
البندقيةُ سريعةٌ كالجفن
والزناد الوحشي هادئٌ أمام العينين الخضراوين
ها نحن نندفع كالذباب المسنّن
نلوِّحُ بأقدامنا ومعاطفنا
حيث المدخنةُ تتوارى في الهجير.
وأسنان القطار محطّمة في الخلاء الموحش
الطفلةُ الجميلةُ تبتهل
والأسيرُ مطاردٌ على الصخر
أنامُ وعلى وسادتي وردتان من الحبر
الخريفُ يتدحرج كالقارب الذهبي
والساعات المرعبة تلتهبُ بين العظام
يدي مغلقة على الدم
وطبقةٌ كثيفة من النواح الكئيب
تهدر بين الأجساد المتلاصقة كالرمل
مستاءةً من النداء المتعفّن في شفاه غليظة
تدعو للغثيان
حيث تصطكُّ العيونُ والأرجل
وأنين متواصل يسيل في مجاري المياه الآسنة
شفاه غليظة، ورجال قساة
انحدروا من أكماتِ الجهل والحرمان
ليلعقوا ماء الحياة عن وجوهنا
كنا رجالاً بلا شرفٍ ولا مال
وقطعاناً بربرية تثغو مكرهة عبر المآسي
هكذا تحكي الشفاه الغليظةُ يا ليلى
أنت لا تعرفينها ولم تشمّي رائحتها القويةَ السافلة
سأحدثك عنها ببساطة وصدق وارتياح
لكن ألّا تكوني خائنة يا عطورَ قلبي المسكين
فالحبر يلتهب، والوصمةُ ترفرف على الجلد
غرفتي مطفأةٌ بين الجبال،
القطيع يرفع قوائمه الحافية،
والأوراق المبعثرة، تنتظر عندليبها،
وندلفُ وراء بعضنا إلى المغسلة
كجذوع الأشجار يجب أن نكون،
جواميس تتأملُ أظلافها حتى يفرقع السوط
نمشي ونحن نيام،
غفاة على البلاط المكسو بالبصاق والمحارم
ونرقد ثانية على بطوننا المضروبة بالسياط
ونشرب الشاي القاحلَ في هدوءٍ لعين.
وتمضي ذبابة الوجود، تخفقُ على طرف الحنجرة
كنا كنزاً عظيماً، ومناهلَ سخية، بالدهن والبغضاء،
نتشاجرُ في المراحيض
ونتعانق كالعشاق
أعطني فمك الصغير يا ليلى،
أعطني الحلمةَ والمدية، إننا نجثو،
نتحدثُ عن أشياء تافهة، وأخرى عظيمة
كالسلاسل التي تصرُّ وراء الأبواب.
موصدة، موصدة، أبداً هذه الأبواب الخضراء،
المنتعشة بالقذارة، مكروهة صلدة،
من غماماتِ الشوق الناحبة أمامها،
نتثاءبُ ونتقيأُ، وننظر كالدجاجِ إلى الأفق،
لقد مات الحنان،
وذابت الشفقة من بؤبؤ الوحشِ الإنساني،
القابعِ وراء الزريبة، يأكل ويأكل،
وعلى الشفة السفلى المتدلية، آثار مأساة تلوح.
أمي، وأبي، والبكاء الخائف، آه ما أتعسني
إلى الجحيم أيها الوطن الساكن في قلبي
منذ اجيال لم أرَ زهرة.
الليالي طويلة، والشتاءُ كالجمر
يومٌ واحد، وهزيمةٌ واحدة للشعب الأصفر الهزيل
إنني ألمس لحيتي المدبَّبة،
أحلم براحة الأرض وسطوح المنازل
بفتاةٍ مراهقةٍ ألعقها بلساني
السماء زرقاء، واليد المكسوّة بالشعر البرونزي
تلمس صفحة القلب،
الشفاهُ الغليظةُ تفرز الأسماء
وأنا مستلقٍ على ظهري، لا أحدَ يزورني
أثرثرُ كالأرملة، عن الحرب والأفلام الخليعة ونكران الذات
والخفير المطهَّم، يتأمل قدميَ الحافيتين
وقفتُ وراء الأسوار يا ليلى
أتصاعد وأرتمي كأنني أجلس على نابض
وقلبي مفعمٌ بالضباب ورائحة الأطفال الموتى
إن أعلامنا ما زالت تحترقُ في الشوارع
متهدلة في الساحات الضاربة إلى الحمرة
كنت أتساقط وأحلم بعينيك الجميلتين
بقمصانك الشفافة، والهجير الضائع في قبلاتكِ الأخيرة،
مرحباً بكِ، بفمك الغامقِ كالجرح
بالشامة الحزينة على فتحةِ الصدر
أنا عبدٌ لك يا حبيبة،
ترى كيف يبدو المطر بين الجبال؟؟
ابتعدي كالهواء يا ليلى،
يجب ألا تلتقي العيون، هرم الانحطاطِ نحن نرفعه
نحن نشكُّ راية الظلم في حلقاتِ السلاسل.
بالله لا تعودي، شيءٌ يمزقني أن أراهم
يلمسونك بغلظة، أن يشتهوك يا ليلى.
سأقتل نفسي إذّاك،
سألكمُ الحديد والجباه الدنيئة، سأصرخُ كالطفل
سأصيح كالبغي،
عيناكِ لي منذ الطفولة، تأسرانني حتى الموت
انطفأَ الحلم، والصقرُ مطاردٌ في غابته
لا شيء يذكر،
إننا نبتسمُ وأهدابنا قاتمةٌ كالفحم
هجعت أبكي وأتوسَّل للأرض الميتة بخشوع
أوّاه لِم زرتني يا ليلى؟ وأنت أشدُّ فتنةً من نجمة الشمال
وأحلى رواءً من عناقيد العسل،
لا تكتبي شيئاً، سأموتُ بعد أيام،
القلبُ يخفق كالمحرمة،
ولا تزال تشرق الشمس، كبيرة لامعة، هكذا نتخيل،
إننا لا نراها
وعلى حافة الباب الخارجي ساقيةٌ من العشب الصغير الأخضر
تستحمُّ في الضوء
وثمة أحذية براقة تنتقل على رؤوس الأزهار
كانت لامعة وتحمل معها رائحة الشارع ودور السينما،
كانت تدوس بحرية،
ووراء الباب الثالث، يقومُ جدارٌ من الوهم والدموع
جدار تنزلق من خلاله رائحة الشرق،
الشرق الذليل الضاوي في المستنقعات.
آه ، إنَّ رائحتنا كريهة، إننا من الشرق،
من ذلك الفؤاد الضعيف البارد
إننا في قيلولةٍ مفزعةٍ يا ليلى.
لقد كرهتُ العالم دفعة واحدة،
هذا النسيجَ الحشريَ الفتاك
وأنا أسير أمام الرؤوس المطرقة منذ شهور
والعيون المبلَّلة منذ بدء التاريخ.
ماذا تثير بي؟؟ لا شيء
إنني رجلٌ من الصفيح
أغنية ثقيلة حادة، كالمياه الدافقة
كالصهيل المتمرد على الهضبة
هضبة صفراء ميتة، تشرق بالألم والفولاذ
فيها أكثرُ من ألف خفقة جنونية تنتحبُ على العتبات والنوافذ،
تلتصقُ بأجنحة العصافير
لتنقل صرخةَ الأسرى وهياج الماشية
من نافذة قصرك اليابسة، ترينها يا ليلى
مرعبة سوداء في منتصف الليل،
ومئات الأحضان المهجورة تدعو لفنائها
وسقوطِ هامتها،
وردمها بالقشِّ والتراب والمكانس
حتى لو قدِّر للدموع الحبيسة بين الصحراء والبحر
أن تهدرَ، أن تمشي على الحصى،
لأزالتها تلك الحشرةُ الداخلة في القلب
بالظلم والنعاس سيتلاشى كل شيء
بالأنفاس الكريهة،
والأجساد المنطوية كالحلزونات
بقوى الأوباش النائمة بين المراحيض
سنبني جنينة للأطفال، وبيوتاً نظيفة
للمتسكعين وماسحي الأحذية
أتى الليل في منتصف أيار
كطعنةٍ فجائية في القلب
كمريضٍ سُجّيَ على مشرحة
لم نتحرك تلك الليلة،
شفاهنا مطبقةٌ على لحن الرجولة المتقهقر.
في المقصورات الداخلية
ثمة عويل يختنق، ثمة بسالة مضحكة في قبضة السوط
الأنوارُ مطفأة لماذا،
القمرُ يذهب إلى حجرته،
وشقائق النعمان تحترق على الاسفلت
قشٌّ يلتهبُ في الممرات،
وصريرُ الحطب يئنُّ في زوايا خفية،
آلاف العيون الصفراء،
تفتِّشُ بين الساعات المرعبة العاقة
عن عاهرٍ اسمها الانسانية
والرؤوس البيضاء، مليئة بالأخاديد
يا رب تشرق الشمس، يا إلهي يطلع النجم
دعه يغني لنا، إننا تعساء، عذبْنا ما استطعت
القملُ في حواجبنا
وأنت يا ليلى، لا تنظري في المرآة كثيراً
أعرفك شهيةً وناضجة،
كوني عاقلة وإلا قتلتك يا حبيبة
لتشرق الشمس،
لتسطع في إلية العملاق
الحدأة فوق الجبل، والنسيم أمام النوافذ
أنشد جيداً بين الينابيع،
الغربةُ سوداء، والغراب على الوسادة
كانت لها رائحة خاصة، وطعم جيفيّ حار
دعه، ملايين الإبر تسبح في اللحم .
أين كنتَ يوم الحادثة؟؟
كنت ألاحقُ امرأةً في الطريق يا سيدي
طويلةً سمراء، وذات عجيزة مدملجة،
إنني الوحيد الذي يمرُّ في الشارع دون أن يحييه أحد
دعني، لا أعرف شيئاً، أبي مات منذ يومين،
أطلقْ سراحي يا سيدي، ذاكرتي ضعيفة
وأعصابي كالمسامير .
أنا مغرمٌ بالكسل،
بعدة نساءٍ على فراشٍ واحد
الجريمة تعدو كالمهر البري،
وأنا ما زلتُ ألعقُ الدم المتجمدَ على الشفة العليا
مالحاً كان، من عيوني يسيل
من عيون أمي يسيل، سطّحوه على الأرض،
الأشرعة تتساقط كالبلح،
لقد فات الأوان
إنني على الأرض منذ أجيال
أتجول بين الوحوش والأسنان المحطمة
أضربه على صدره، إنه كالثور
سفلَة، دعني آكل من لحمه،
بشدةٍ كان الألم يتجه في ذراعي
بشدة، بشدة نحن عبيد يا ليلى
كنت في تلك اللحظة،
أذوق طعم الضجيج الإنساني في أقسى مراحله
مئات السياط والأقدام اليابسة
انهمرتْ على جسدي اللاهث
وذراعي الممدّدة كالحبل
كنت لا أميّزُ أيَّ وجهٍ من تلك الوجوه
التي نصادفها في السوق والباصات والمظاهرات
وجوهٌ متعطشةٌ نشوى.
على الصدر والقلب كان غزالُ الرعب يمشي
بحيرة للتماسيح التي تمرُّ بمرحلة مجاعة،
مجاعة تزدردُ حتى الفضيلة والشعورَ الالهي المسوَّس
لقد فقدنا حاسة الشرف، أمام الأقدام العاريةِ،
والثياب المشققة،
أمام السياط التي ترضعُ من لحم طفلةٍ بعمر الورد
تجلد عاريةً أمام سيدي القاضي،
وعدة رجال ترشحُ من عيونهم نتانةُ الشبق،
والهياجُ الجنسي،
وجوه طويلة، كقضبان الحديد
تركتني وحيداً في غرفة مقفلةٍ، أمضغ دمي
وأبحث عن حقد عميق للذكرى .
النجيع ينشد على طرف اللسان
والغرابُ ينهض إلى عشّه،
الألمُ يتجول في شتى الأنحاء
والمغيص يرتفع كالموج، حتى الهضبة،
كادت تنسحب من هذا النضال الوحشي،
من هذا المغيص المروع،
رأسي على حافة النافورة،
وماؤها الفضي يسيلُ حزينا على الجوانب
من وراء المياه والمرمر
يلوحُ شعرُ قاسيون المتطاير مع الهواء
وغمامةٌ من المقاهي،
والحانات المغرورقة بالسكارى
تلوح بنعومة ورفقٍ، عبر السهول المطأطئة الجباه،
لم يعد يورقُ الزيتون، ولم تدرْ المعاصر
كلهم أذلاء،
وأضلاعي تلتهبُ قرب البحيرة،
إنها تسقي الزهور، أنا عطشان يا سيدي
في أحشائي صحراء،
أنقذني يا قمر أيار الحزين .
استيقظي أيتها المدينة المنخفضة
فتيانك مرضى، نساؤك يجهضن على الأرصفة
النهد نافر كالسكين،
أعطني فمك، أيتها المتبرجةُ التي تلبس خوذة
بردى الذي كان ينساب كسهلٍ من الزنبق البلوري
لم يعد يضحك كما كان،
لم أعد أسمع بائع الصحف الشاب ينادي
عند مواقف الباصات،
الحرية منقوشةٌ على الظهر
واللجام مليءٌ بالحموضة
ضعْ قدمك الحجريةَ على قلبي يا سيدي
الريحُ تعوي على جليد المعسكرات
وثمة رجل هزيل يرفع ياقته،
يشرب القهوة، ويبكي كامرأةٍ فقدت رضيعها
دعْ الهواء الغريب يكنس أقواسَ النصر
وشالات الشيوخ والراقصات
إنهم موتى، حاجز من الأرق والأحضان المهجورة
ينبت أمام الخرائب والثياب الحمراء،
فإن ذئاب القرون العائدة بلا شاراتٍ ولا أوسمة
تشقَّ طريقها داخل الدم
تموت على الرمال البهيجة الحارة
لا شيء يُذكر، الأرض حمراء،
والعصافير تكسّر مناقيرها على رخام القصر
وداعاً وداعاً إخوتي الصغار
أنا راحلٌ وقلبي راجعٌ مع دخان القطار .

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن محمد الماغوط

avatar

محمد الماغوط حساب موثق

سوريا

poet-mohammed-al-maghout@

21

قصيدة

274

متابعين

محمد أحمد عيسى الماغوط .من مواليد 1934م شاعر واديب سوري من ابرز شعراء قصائد النثر والقصائد الحرة في الوطن العربي. ولد في بلدة سلمية (شرقي مدينة حماة - وسط سورية).عاش ...

المزيد عن محمد الماغوط

اقتراحات المتابعة

أضف شرح او معلومة