الديوان » مصر » محمود غنيم » فديتك راحلاً

عدد الابيات : 72

طباعة

عَلامَ تَشُدُّ رحلكَ غيرَ واني؟

فديتُك راحلاً قبل الأوان!

رويدك، يا خفيفُ؛ فلست تدري

بقبرك بعد بُعْدكَ ما أُعاني

بربِّك: كيف تلقى الموتىَ دوني؟

وكيف به دعاكَ، وما دعاني؟

وإني من كيَانك كنتُ جزءًا

كما قد كنتَ جزءًا من كياني

وَكنتُ أعُدُّ دمع العين ضعفًا

فسال عليك منطلقَ العِنَان

وكيف أُطيقُ بعدك حَقْنَ دمعي

ولي: قلب يحس، ومقلتان؟

وقالوا: إن سَكْبَ الدمع يَشْفى

فما للدمع بعدك ما شفاني؟

وما هذي الحياةُ سوى طريق

ونحن على الطريق مسافران

فكيف تركْتني في الدرب فردًا

ومالي بالسُّرى فردًا يدان؟

وآخى بيننا الأدبُ المصفَّى

فظن الناس أنا توءَمان

فكنتُ إذا فرحتُ، فرحتَ قبلي

وتَشجَي أنتَ، إن هَمٌّ شجاني

وإن غَشِيَتْك غاشيةٌ، أُعَزَّي

وإن رُقِّيتَ، جاءَتْني التهاني

أحقًّا: أنَّ محمودًا تولى

وأني لن أَراه، ولن يَراني؟!

وكيف، وصوتُه مازال يسرِي

إلى سمعي كما تسري الأغاني؟!

وذلك سمته طلقُ المحيا

وذاك شبابُه في عنفوان؟

كذلك أنتِ، يا دنيا، سرابٌ

لَحَاكِ الله! مالك من أمان!

يُطالِعُني الخفيفُ بكل أفْق

وألمح وجهَه في كلِّ آن

فعند النوم يَعْرض لي خيالاً

وعند الصحو يبدو للعَيان

أكاد أراه حين أسيغُ مَائي

وزادي في الكئوس، وفي الأواني

أرى وَجهَ الخفيف خَبَا سَناهُ

فأعجب: كيف يَبْدُو النَّيِّرَان؟!

وأعجب للكواكب: كيف تَسْرِي

ولا يَعْرو الكواكبَ ما عراني؟!

كأَنِّي ما جَفوْتُ سواه خلاٍّ

ولا خلٌّ سواه قد جفاني

كأني ما جلستُ إليه يومًا

ليُطْرِفَني بأبكار المعاني

فأنساني الجلوسُ إليه نفسي

وما أَلقاه من عَنَت الزمان

يطيبُ بَيَان محمود بسمْعي

ومحمودٌ يطيبُ له بياني

ويطرب حين يهجوه غنيمٌ

وأطرب للخفيف إذا هجاني

كلانا شاعر يهجو أخاه

بلا حقد عليه ولا اضطغان

أهاجٍ هُنَّ في الأذَوَاق أشْهَى

من التشبيب بالبيض الغواني

سرت أبياتُها بين الندامى

فأنستْهم معتَّقةَ الدِّنان

يعطرها الوفاءِ بنفح طيب

ويكسوها الصفاء بطيلسان

وكم مدحٍ يفيض به نفاقًا

لسانٌ مثلُ ناب الأفعوان

كَبَا المُهْر الذي ما اعتاد إلا

فَخَار السبق في يومِ الرِّهَان

وقال الطبُّ: سكتةُ نبض قلب

عرته! فقلت: أفناه التَّفاني!

سِجلٌّ خُطَّ في خمسين عامًا

طوتُه يدُ المنيَّة في ثوان

لكن بعد أن أضحى نشيدًا

يُردَّدُ مثل ترديد الأذان

يصيب الموت محمودًا؛ فيفنى

وليس تراثُ محمود بفان

أعِنِّي، يا خفيفُ، على المراثي

رأيت الشعرَ بعدك قد عَصَاني

فكم عاونْتني في مدح خلٍّ

وكما ساعدتني في هجوِ شاني

وما ترجَمْتُ عن حزني بشعري

فهلا كان شعرُك تَرجماني؟

عهدتُك ناطقًا بالشعر دُرًّا

كأنك صِدْت شعرَك من عُمان

تفّرد كل ذي قلم بِحُسْني

وتمت للخفيف الحُسنَيان

بكت فيه الكتابة، والقوافي

نبوغَ ابن المقفَّع، وابن هاني

ليَهْنكَ: أن مَوْتك في مكان

طَهُور الأرض، قُدْسيِّ المغاني

صريعُ العلم أشجعُ من صريعٍ

بضرب السيف؛ أو طَعْن السِّنان

ودُور العلم مَيْدانٌ فسيح

يموتُ به الشهيدُ بلا طعَان

وكل دروسها نُسُكٌ، وَوَحْيٌ

وآياتٌ من السبع المثاني

ولمَّا أن سقطتَ على ثَرَاها

كما سقط الكَمِيُّ عن الحصان

تفزَّعَ سقفُها هَلعًا؛ وضجَّتْ

صحائُفها، وأَعْوَلت المباني

وسحَّت من عَصيِّ الدمع سُحْبٌ

على دمك الزَكيِّ الأرجواني

دمان: دمُ الشهادة منك يجري

وآخرُ من دموع العين قاني

وزاغت حولك الأبصار حتى

كأنَّ الأفْقَ غُشِّيَ بالدُّخان

وريع جَنانٌ كلِّ فتىً جليد

يخوضُ لَظَى الوَغى ثَبْت الجنان

عيون بنيكَ حولكَ ناضحَات

بدمع، أو بطهر، أو حنان

يَوَدُّ فِدَاك كلُّ أغَرَّ منهم

كأن قَوَامه من خيزران

وما فقدوا بفقدك غيرَ دُنيا

معلقةٍ عليك من الأماني

وما حَمَلُّوا على الأعناق إلا

ملاَكًا من ملائكة الجنَان

تَحْدْتَ العالمَ العُلْوِيَّ دارًا

وَعفتَ العيشَ في دار الهَوَان

وليس النجم يمكثُ في مدار

وليس الطيرَ يلْبَثُ في مكان

وأشهد، ما حَنَيْتَ الرّأسَ يومًا

لتدْنُوَ من فلانٍ أو فلان

ولا عَرَّضتَّ نفسَك لابتذال

ولا عرضت شِعْرَك لامتهان

فما تسعى إلى أحد، ويسعى

إليكَ مُهْرْولاً قاص، وداني

ولا ترجو سوى المولى مُعينًا

وأكرم بالمعين وبالمعَان!

وما الزُّلفَى سوى سترٍ يغطي

قصورَ مواهبٍ، وخمولَ شان

ضمنتَ بعبقريتك الأماني

وما كالعبقريَّةِ من ضمان

وما أعقبتَ، يا محمودُ، نَسْلاً

سوى أبكارِ أفكارِ حِسَان

إذا خطبت، تساق لهم الدَّرْاري

مُهورًا، لا اليتيم من الجُمان

ولولا الفن كنتَ أبًا وجَدًّا

ولكن لست بالرجُلِ الأنانِي

كفى بالفن، للفَنَّان دَبْرًا

يَعُوقُ عن التناسل والقِران

رسالتك النبيلةُ منك حَلَّتْ

محل النَّجْل والزوج الحَصان

لقد رَبَّيْتَ للأوطان جيلاً

أشمَّ الأنف منطلقَ اللسان

فكل أب بمصرَ يراك قَبْلاً

أبا لبنيه أوَّلَ، وهْو ثاني

شبابُ الجيل يسألُ عن أبيه

فيومئ نحو قبرِك بالبنان!

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن محمود غنيم

avatar

محمود غنيم حساب موثق

مصر

poet-mahmoud-ghoneim@

82

قصيدة

372

متابعين

توجد روايتان عن مولد الشاعر: محمود غنيم الاولى أنه ولد في ١٩٠١م،والثانية أنه ولد في 1902م،وقد ولد بقرية مليج في محافظة المنوفية. ويعد واحد من أبرز الشعراء العرب في جيله، وهو صاحب ...

المزيد عن محمود غنيم

اقتراحات المتابعة

أضف شرح او معلومة