الديوان » العراق » مظفر النواب » عروس السفائن

فوانيسُ في عُنقِ المُهرِ
علّقها الإشتهاءُ
ونجمٌ يضيءُ على عاتقِ الليلِ
زَيَّتَ نخلَ الهمومِ
وأعتَقَ مِن عُقدة الشاطئين
رحيلَ السفينةِ
مِن سفنٍ لا تُضاءُ
وناحَت مزاميرُ ريحِ الفَناء
فأوقَظت ربّانَها المستحيلَ
فذاقَ الرياحَ وأطرَبَهُ الإبتلاءُ
وسادِنُ روحي وقد أطبقَ الموجُ
حتى تجرّحَها
أنها وَحّدَت نفسَها بالسفينةِ
مَن ينتمي هكذا الإنتماءُ
فنَيتُ بعشقٍ وأفنيتُهُ بفَنائي
لينبتَ مِن فانِيَيْنِ بَقاءُ
بَنَيتُ بيوتاً مِن الوهمِ والدمعِ
أين هو العشقُ.. أين هو العشقُ؟
تَمَّ البناءُ
عروسَ السفائنِ
ألصَقتُ ظهري
على خشبِ الشمسِ فيكِ
حريصاً على الصمتِ
مُدمىً مِن الناسِ في البَرِّ
أستَنجِدُ البحرَ
قبلَ قراءاتِ بوصَلتي ودليلي
وأكشفُ ما نَهشتهُ الجوارح
من مُضغة القلبِ
أُبقي الجروحَ مُفتّحةً
في رياحِ الممالحِ
لا يحلمُ الجُرحُ
ما لم يُحدّقْ بسكّينه
عابثاً في الظلامِ الثقيلِ
إذاً، دارَت الشمسُ دورتَها
وارتأتني الرؤى
نائماً تحتَ ألفِ شراعٍ
مجوسيةٌ قصتي
مَعبدُ النارِ فيها
وقلبي على عجلٍ للرحيلِ
بعيداً عن الزمنِ المُبتَلى يا سفينةُ
إن قليلاً من الوِزرِ
أمتعتي المُزدَهاةُ
ولم ثُثقَلي بالقليلِ
سأُبقي المصابيحَ موقدةً
في بهاءِ الصباحِ مُصالحةً
بين صحوِ الصباحِ وصَحوي
وأُبقي الرياحَ دليلي
وأسألُ عن نورسٍ
صاحَبَ الروحَ في زمنِ البرقِ
يوم المحيطاتُ كانت
تنامُ بحضنيَ نَشوى
وما زالَ ثوبي أخضرَ
مِن مائِها
يا لهُ مِن زمانٍ مضى
بين ألفٍ مِن السَنوات الفَتِية
يا وَجدُ.. يا وَجدُ.. يا وَجدُ
ما كُنتَ كاليومِ
دونِ حَماسٍ
وما ظلَّ في خاطري الآنَ
إلّا النشيجَ اللجوجَ
مِن اللجَجِ النَيلَجِيّةِ
والزبَدَ الأرجوانَ المُعَشَّقَ
في غَسقٍ باللآلي
هو الزبَدُ الأرجوانُ المزخرفُ بالليل
والقمر الآن
مِن زهرَتَي برتقالِ
تَغَيَّرتَ مُستعجِلاً
أيها الفرحُ الضجَريُّ
وأصبحَ مَحشِدَ أغرِبةٍ
سطح قلبي
يَنُحنَ قُبيلَ مغيبِ الهلالِ
عروسَ السفائنِ
إني انتهيتُ على سطحِكِ الذهبي
ورأسي إلى البحرِ
تَستافُ رائحةَ اللانهاياتِ والليلِ
تَعبى يُطوِّحُها الموجُ
ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمالِ
لقد ثَقُلَ الرأسُ بالخمرِ
والزمنِ الصعبِ قبل قليلِ
وأنهَكني البحثُ
في زمنٍ للطحالبِ
عن طُحلبٍ
بالأقلِّ يُصيخُ معي
في الهزيعِ
إلى جهةِ المستحيلِ
لدى الله كلُّ النوارسِ نامَت
ولم يبقَ إلّا سفينتُكَ الآنَ
مبهورةً بالشمولِ
على وجهِها مِن رذاذِ الغروب
ومِن عَرَقِ الله في الأرخبيلِ
فأين سيُلقي المراسي المساءُ؟
بنيتُ بيوتاً مِن الماءِ
هَدَّمَها الجَذفُ
كي ما يتمَّ البِناءُ
ومنذُ نهارينِ في وَحدَةِ المُتناقِضِ
هذي السفينةُ
يدفعُها ويدافِعُها الإبتداءُ
أعلّلُها بعليلِ الرياح
ويغري بها أنها من طبيعتِهِا تستَمِدُّ
سليلَ السفائنِ واللانهاياتِ
يا لانتِشائِكَ إذ يهزجُ البحرُ
بالزَّبدِ الزئبقيِّ
ويزهو الزبرجدُ واللازوردُ
أيا لازوردُ.. أيا لازوردُ.. أيا لازوردُ
إذا هزَجَ البحرُ
فالكَونُ زاءٌ مُنَوّنةٌ
فوقَها شَدّةٌ.. فوقَها شَدّةٌ.. ثم مَدُّ
وللشَدِّ مِن بعدِ ذلك شَدُّ
وإني على مَركَبي
في الظلام أشدُّ
وعلى دفّتي في الهزيعِ
كما خَصرُ أنثى أشدُّ
وتَندمِلُ الآن يا صاحبي
فالنجومُ هنا لا تُعَدُّ
وأنتَ كما خَلَقَ الله
في نشوةِ الوحشِ بين الصواري
يؤججُ ما قد تَبقّى
مِن الشَّيبِ برقٌ
ويَعبَث في ما تبقّى
مِن القلبِ رعدُ
عجيبٌ صراخُكَ
في غمراتِ البنفسجِ والكونِ
إذ يصل العتباتِ الأخيرةَ
في صَبوةٍ لا يَنِدُّ
عروسَ السفائنِ
لا تتركيني على أمقَتِ الساحِلَينِ
يجنُّ جنوني
إذا رنَّ في هدأةِ الليل بُعدُ
أهيمُ إذا رَنَّ في هدأةِ الليل بُعدُ
عروسَ السفائنِ
لا تتركيني لدى
حاكمٍ وسخٍ يستَبِدُّ
لقد كفَّت الخمرُ
عن فِعلها فيَّ مِما تداويتُ
واربَدَّ في الصبرِ جِلدُ
أَحبُّ الحروفَ لها شهقةٌ
بعدها لا تَندُّ
وما العاشقونَ
سوى شدّةُ اللهِ
أسرارُها لا تُحَدُّ
فإن ساحَ صمغُ البنفسجِ
في مَوهِن البحرِ صارت تَنِزُّ
وصِرتُ ألِزُّ
ألِزُّ...ألِزُّ
عروسَ السفائنِ
والبُردُ في ألقِ الصبحِ قَزُّ
وليس يُهاجِرُ في الفجرِ
إلّا الإوزُّ
رسا السأمُ السرمَدي بجسمي
وليس سوى غامِضات البِحارِ
التي تَستفِزُّ
أصيحُ خُذيني لأسمعَ أجراسَها
إن برقاً بقلبي يَلِزُّ
أنا عاشقٌ أيُّهذي البِحارُ
أجراسَكُنَّ
فقد أوحشتني الشوارعُ
مِما بِها مِن رؤوسٍ تُجَزُّ
وفاضَ الإناءُ
بَنيتُ بيوتاً مِن الوهمِ والدمعِ
أين هو العِشقُ.. تَمّ البناءُ
أُحاورُ روحي
وكلُّ حِوارٍ مع الروحِ ماءُ
بكى طائرُ العُمرِ في قفصي
مُذ رأى مِخلبَ الموتِ
ينزلُ في صحبِهِ
ويَكفُّ الغناءُ
متى أيُّهذي العروسُ
يجيءُ الزمانُ الصفاءُ
ففي القلبِ مملكةٌ للدماملِ
والجسدُ الآنَ في غايةِ الإعتلالِ
خُذيني لأقرأ روحَ العواصِفِ
حينَ تُعانقُ سُخطَ الليالي
خُذيني فإن العُصارةَ
تغرقُ في الإنحلالِ
خذيني.. خذيني.. خذيني
فما البحرُ في حاجةٍ للسؤالِ
خذيني.. فليس سوى
تَعَبِ البحرِ يُشفي
ويُنقِذُ مِن فقماتِ المقاهي
كفى لغَطاً عاهراً أيها الفقماتُ
كفى يا ضفادعُ هذا النقيقُ الدنيءُ
فأنتم سُباتُ
سأصرخُ :يا بحرُ
يا ربُ.. يا رقصُ.. يا عتماتُ
زُحارٌ بكلِّ التقاليدِ
لا يتبع البحرُ بوصلةً
بل تُتابعهُ البوصلاتُ
زحارٌ ببحّارةٍ يرهنونَ لحاهم لدى ساحلٍ
واعصفي فالمقاديرُ قد
أفلتت من إرادتها العجلاتُ
سيولٌ على بعضها تتواثبُ
في زحمةِ الارتطامِ
وفي دمهم يعبرُ الثائرون
إذا لزم المعبرُ
ومن قطرةٍ يُعرَفُ المصدرُ
هي اللحظةُ اقتربتْ فاسهروا
تهبُّ البنادقُ تستهترُ
وتصحو النيازكُ والعنبرُ
ويأتي دمٌ مُدلهمٌّ مخيفٌ
أقلُّ ارتطاماتهِ محشرُ
وعاصفُ أسودُ ذو ألفِ عينٍ
على متنه عاصفٌ أحمرُ
وتمسي الذقونُ ذنابى عقاربَ
في أوجهِ الخائفين وما زوّروا
فذئبٌ بفخذين من آخرٍ
يدفنُ الوجهَ رعباً
فهم نسقٌ أصفر
لقد كنتُ أحلمُ وعياً
وفي حُلُمٍ بالذي
سوف يأتي وفاءُ
ومرّتْ جنازةُ طفلٍ
على حلمي بالعشيِّ
يُراد بها ظاهرَ الشامِ
قلتُ: أثانيةً كربلاءُ؟
فقالوا: مِن اللاجئين
كَفَرتُ
وهل ثَمَّ أرضٌ تُسمى لجوءاً
لنُدفَنَ فيها؟
وهل في الترابِ كذلكَ
مقبرةٌ فقراءٌ ومقبرةٌ أغنياءُ؟
تَلَفّتُ في ظاهرِ الشامِ
أبحثُ عن مَوضعٍ
لا يَمُتُّ لغيرِ منابِعه
ندفنُ الطفلَ فيهِ
وقد دَبّ فينا المساءُ
وكان على كلّ أرضٍ
نظامُ الحوانيتِ
يدفعنا في الغروبِ
وكان يُشارُ لنا غُرباءُ
وحين دنَونا لمقبرةٍ
ليس مِن مالكينَ لها
جَعجَعَ الحَرَسُ الأموي بِنا
فُرِزَت للخليفةِ
قلتُ: بل يُفرَزُ الخلفاءُ
وكان نسيمُ الطفولةِ ينضحُ
مِما شُقوقُ الجنازةِ
بين المخيّمِ والشامِ تُنصِتُ
أين اللقاءُ؟
جنازةُ مَن هذهِ؟
ولماذا بلا وطنٍ؟
وكلابُ الخليفةِ تنبحُ مِن حَولِها
والمخيّمُ يَحمِلها راكضاً
والشواهدُ تعرقُ
قلت اعرَقي
واكفهرَّ على تلةٍ
في البَعيدِ الشتاءُ
أليست هي الأرضُ ملكاً لربّ العبادِ
وهذي الجنازةُ
أصغرُ مِن أصبعي فادفُنوها
وأمُّ الجنازةِ يكسرُها الإنحناءُ
وجدُّ الجنازة أعمى يُتأتئ
والعينُ يرشحُ منها
على الصمتِ ماءُ
وقيل لنا مبلغٌ يَحسِم الأمر
فاجتمعَ الفقراءُ
فللمالِ أفعالهُ يَستَفزّ
هُنا دُفِنَ الطفلُ
في آخرِ الأمرِ
يا أرضَ غزةَ فاسترجعيهِ
لئلّا مقابرُهُم تُستَفزُّ
وليس يُهاجرُ
في مَوهِنِ الليلِ إلّا الإوزُّ
عروسَ السفائنِ
إن المراكبَ
إن لم يَكُن فوقَها
عالِمٌ بالبِحارِ تَنِزُّ
ويُلقي بِها الليلُ مُنهَكةً
يتناوَحُ فيها النهيجُ
ويرتفعُ البحرُ جيماً عجيبة
إمّا تصاعدَ في الليلِ
مِنهُ الضجيجُ
وما نقطةُ الجيمِ
إلّا البقية مِن جنةٍ
أنهكَ الحِبرَ فيها الأريجُ
وأسأل :
هل نَزَلَ الطفلُ في قَبرِهِ
لاجِئاً بين أمواتِنا؟
لكأن اللجوءَ مصيرٌ لجوجُ
عروسَ السفائنِ
أسنَدتُ ظهري
على خشبِ الشمسِ فيكِ
حريصاً على الصمتِ
أستَنجِدُ البحرَ
إن الجماهيرَ في شاغلٍ
والدهاقينَ في قمّةِ النفطَ
في حكّةٍ بين أفخاذِهم
والزمانُ على عجلٍ للرحيلِ
وقد دارتِ الشمسُ دورتَها
وانتهى اليومُ والشمسُ
تُرجئ بعضَ الدقائقِ
قبل الأصيلِ
خذيني إلى البحر
يا أيّهذي العروسُ
لقد ملَّ قلبي
ألاعيبَ أهل السياسةِ
والرأسُ أثقَلَهُ الخمرُ
والزمنُ الصعبُ قبلَ قليلِ
وكلُّ النوارسِ نامت
ولم يبقَ
إلّا سفينتُكَ الآنَ مبهورةً بالشمولِ
عروساهُ
يا هودجاً يتهَودجُ بين الكواكبِ
فليمرجِ البحرَ ولتحمليني
أرى عرباتِ الزمانِ مُطهّمةً
تَلِجُ الأبدية في معبدِ الشمسِ
شامخةٌ طِيبةُ الآن
تلبسُ كلَّ مفاتِنها
نَهدُها في اهتزازِ
ويرتفعُ الحزنُ
مِن فوقِ أكتافِها
يتباركُ بالموكبِ الملكيِّ
وترتفِعُ الإبتهالاتُ
فرعونُ.. فرعونُ.. فرعونُ
يرتفعُ الصبحُ.. يرتفعُ المجدُ
ترتفعُ الخيلُ بالرُّسنِ الذهبيةِ
أصرخُ: قِفْ
يتوقّفُ ربُّ الزمانِ
وقلبي توقّفَ في الحزنِ
كالحجرِ الأردوازِ
وطيبةُ شامخةٌ
نهدُها في اهتزازِ
رفعتُ عيوني
إلى نسرِ طِيبةَ
فوق الجبينِ
الذي مَسحتهُ الخليقةُ
بالخمرِ والإعتزازِ
أفرعونُ
يا مَن تُخلِّد أهرامُكَ الموتَ
أسرِع هنالكَ
مَن يَبتني هرماً للمخازي
تَقزّزَ وجهُ الإلهِ
وألهَبَ ظهرَ الجِيادِ
سِياطاً وقرَّحَها
صِحتُ :
قِف أيها السادنُ الأبديُّ
فَمَن يملِكون السِدانَةَ
قد سرقوا شعبَ مِصر
زَوَّروا شعبَ مِصر
وقَّعوا باسم مِصر
ومِصر براءُ
شربِوا نخبَها وهي جائعةٌ
ليس في قدمَيها حِذاءُ
لكن متى كان فرعونُ يُصغي؟
دعَوتُ أبا المِسكِ
لكن متى كان كافورُ يُصغي؟
إستَجَرتُ المماليكَ
لكنهم أرسلوا مصر
فوق الجِمالِ
لوالي الجزيرةِ كسوة
ووالي الجزيرةِ بين سراويلهِ
الحَلُّ والرَّبطُ
والزيتُ والموتُ
والحربُ والسِلمُ والعَنعَناتُ
وأكثر ما يُفرِخ الإمَّعاتُ
ولكن لمصرَ مواعيدُها
للصعيدِ مواعيدُهُ
للرصاصِ مواعيدُهُ
والنجومُ هنا لا تُعَدُّ
وليس أمامَ البراكينِ
في لحظةِ الرَّوعِ سَدُّ
وهذي الشوارعُ إن هدَرَت
قَدَرٌ مُستَبِدُّ
وهذي الفوانيسُ
تُفضي لحلوانَ في الليلِ
حيثُ السلاحُ الخَفيِّ يُعَدُّ
أعِدّوا لهم ولعاهرِهِم
إن عاهِرَ نَجدٍ يُعِدُّ
لقد حاولوا أن يَهدّوا
على ناصرٍ قبرَهُ
فهو مُعترضٌ دربَهُم
والقبورُ لهنّ لدى الحرب حَدُّ
ولكن لدى الله جندُ
لقد ذُبِحَت ناقةُ اللهِ
واقتسمَ السفهاءُ
أنا لستُ بالناصِريِّ
ولكنهم ألقَوا القبضَ
ميتاً عليهِ
وعُرِّيَ مِن كفنٍ
نَسجَتهُ قُرى مِصرَ مِن دمعَتَيها
إذاً سقطَ الآنَ عن بعضِ
مَن دفنوهُ الطِلاءُ
أقول لناصرَ
أخطأتَ فينا اجتهاداً
ولكننا أُمَناءُ
وإن الذي في الكنانةِ
مما رحمتَ فأطلقتَ أمسِ
يكافئك الطلقاءُ
لَئِن كان كافورُ أمسِ خصياً
فكافورُها اليومَ
يُنجِب فيهِ الخِصاءُ
تَفتّقَ فيهِ الغباءُ ذكاءً
ومِن مُشكلٍ يتذاكى
بدون حياءٍ
غباءُ
وما عَجبٌ تُرسِلُ الريحَ في أزمةٍ
وتلفُّ بموضِعها الخُنفساءُ
ولكن تموت على ظهرها
وتُكابرُ بين الخنافسِ داءُ
ومهما السجونُ تَضمُّ إماماً
يظلّ على شَفَةِ الكادحينَ الغِناءُ
ومصرُ التي في السجونِ
مع الرَّفضِ
أما التي في البياناتِ
مِصرُ البِغاءُ
وحاشا فإن مِن النيلِ
ما يغسلُ الدهرَ
مهما طغى الحاكمونَ الجُفاءُ
لِمَن في الظلامِ الدماءُ
لِمَن في الظلامِ التوابيتُ تمشي
وفيمَ الحراساتُ حول المقابرِ
قال الذي يتلفّت:
إن العزيزَ يمرُّ
على شهداءِ المَحَلّةِ بالطائرة
قلتُ: هو القِسطُ يُدفَعُ
أقفِل فَمَك
فالمباحث من حولنا كالبعوض
فصحتُ: لماذا العُجالةُ في الدفنِ
أسكُتْ مخافةَ
أن يزحفَ الدمُ في القاهرة
صرَختُ: سيزحفُ
علّمني زمنٌ بالعراقِ
بأن الدماءَ هي الآخرة
وحين الصعيدُ
يُطَوِّقُ قصرَ المماليكِ
لستُ أُبالغُ
يجتمعُ الله في الناصرة
تقولُ البياناتُ
قد قتلوا عامِلاً واحداً
تكذِبُ العاهرة
فهذا دمٌ يجمعُ العربَ الفقراءَ
مِن الأطلسيّ إلى صفقةٍ في الخليجِ
وقد كَفَرَتْ نخلةٌ حين بيعتْ
وإني مع النخلةِ الكافِرة
أرى الأرض تُنقَلُ أيضاً
مع النفطِ في الباخرة
خنازيرُ هذا الخليج يبيعونَنا
والذين هنا
يمسحَون قذارتَهُم بالقروضِ
لقد تمّت الدائرة
لِمَن في الظلامِ الدماءُ
سؤالٌ يُلِحّ
وتُزهِرُ مِن حَولِهِ
أعينُ الساهرينَ على جُثثٍ
زَيّتَتها المكائنُ والدمُ والكبرياءُ
ستبقى المكائنُ هذي
مزيتةً بالدماءِ
وينتجُ عنها قماشٌ دماءُ
إلى أن تقولَ الكنانةُ أحكامَها
ويُعَلَّق فيها السماسرةُ الزعماءُ
عروسَ السفائنِ
أصحَرتُ مُبتعِداً
عن هناءاتِ روحيَ فيكِ
فإنيَ مِن أمَّةٍ
تتفجّرُ في ليلِها الصحراءُ
وما بِدعةٌ لا أرى في المذاهبِ
غير جواهِرها
ما بهذا انتقاءُ
أمدُّ جذوريَ
تضربُ في الأرضِ عن ثقةٍ
أن زهري سماءُ
وليس على ناظريَّ
الغشاوةُ فيما رأيتُ
ولكن على أمّةٍ
حَرَّفتْ مُبدعيها غشاءُ
أبا ذرَّ إنّا نفيناكَ ثانيةً
حين قُلنا بمحضِ الفجاجةِ
مِن غيرِ روحِكَ يبتدئُ الفقراءُ
وما كفنٌ قد شَرَطتَ
وعشتَ بهِ في الزمانِ
فناراً تُحاوِلك العادياءُ
سوى أن فائضَ مالٍ رَفَضتَ
وشرَّعت أن الخلائقَ
خَلقٌ سَواءُ
وأنكَ في الفكرِ والروحِ أصلٌ
ومِن مُعجزِ المُلتقى
يتوحَدُ فيكَ الثَرى والفضاءُ
بَنيتُ بيوتاً مِن الوهمِ والدمعِ
أين هو العِشقُ.. تَمَّ البِناءُ
بكى طائرُ العُمرِ في قفصي
إذ رأى مِخلبَ الموتِ
ينزِلُ في صَحبه
ويكُفّ الغِناءُ
فأنَّبتهُ أن يصدِّح َ
كي يُسكِرَ القفصَ الدنيويَ
فإن انفلاتاً مِن الشرطِ
بِدءٌ لِفَكّ الشروطِ
كما تتعرّى مراهِقةٌ
تَتَمنَّعُ حَلمَتُها أن يراها الهواءُ
ومنذُ نهارَين
والطائرُ المُشرَئِبُ
يُحدِّقُ في الأفقِ
ماذا تُراهُ يشُفُّ الوراءُ
كأنَّ بهِ هاجساً
يَتَقرَّبُ مِن خطرٍ
أو بهِ خطرٌ
أنها الأرضُ تدخلُ منزِلةً وتشاءُ
هو الآن في وحدة المُتناقضِ
حيثُ يتمُّ النَّقيضُ الجديدُ
ويستكمل الدورةَ الإنحناءُ
أحاور روحي.. أحاورها
وحوارٌ مع الروحِ ماءُ
عروسَ العرائسِ
أدعو النجومَ إلى قَمرتي
فأنا أُولِمَ الليلَ نَذراً
وألبسُ أبهى ثيابي
فقد كنتُ عند نخيلِ العراق
وإن كان حُلماً
وكان العراقُ
على مُهرِهِ عارياً
مثلما ولدَتهُ السماءُ
وكان على عتباتِ العراقِ الفضاءُ
وبين ضُلوعي فضاءٌ به نَجمةٌ
لست أدري بماذا تُضاءُ
وفي نَجمتي تلك
يجتمعُ اللهُ والأنبياءُ
قد اجتَمعوا
وتأخرَ عنهم نبيٌّ
سُئِلتُ فقلتُ :
يُزَيِّتُ حَدَّ السلاحِ
فإن نبيَّ الزمانِ الفِداءُ
عروسَ السفائنِ
صارَ العراقُ
لطولِ المُجافاةِ حُلماً
ولكن به دجلةٌ والفُراتُ
كأنَّ مِن الحُلمِ
يرشحُ عِشقٌ وماءُ
يُسيئُ إلينا العراقُ
وفي الحبِّ حلوٌ يُساءُ
أيا وطني ضاقَ بيَّ الإناءُ
كأن الجِمالَ بليلِ الجزيرةِ
سوف يطولُ عليها الحِداءُ
كأن الذي قتلَ المتنبي
لِشِعري ابتداءُ
لأمرٍ يُهاجرُ هذا الذي
إسمهُ المتنبي
وتعشقُهُ بالعذابِ النساءُ
وما قَدَرٌ أنهُ
في الجزيرةِ يوماً
وفي مِصرَ يوماً
وفي الشامِ يوماً
فأرضٌ مُجزّأةٌ
والتجزّءُ فيها جزاءُ
عروسَ السفائنِ
كلٌّ على قَدَرِ الزيتِ فيهِ يُضاءُ.

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن مظفر النواب

avatar

مظفر النواب حساب موثق

العراق

poet-muzaffar-al-nawab@

74

قصيدة

913

متابعين

ولد مظفر النواب في بغداد عام 1934 لعائلة شيعية أرستقراطية ذات أصول هندية وكانت تهتم للغاية بالفنون والآداب والشعر والموسيقى، وكثيراً ما كان قصر العائلة المطل على نهر دجلة مقراً ...

المزيد عن مظفر النواب

اقتراحات المتابعة

أضف شرح او معلومة