الديوان » العراق » محمد مهدي الجواهري » القرية العراقية

عدد الابيات : 107

طباعة

رونقٌ في الثَّرى وعلى الروضةِ

لطفٌ من السَّما مسكوبُ

ما أرقَّ الأصيلَ سال بشفَّافِ

شعاعٍ منه الفضاءُ الرحيب

كلُّ شيءٍ تحت السماء بلونٍ

شفقيًّ مورَّدٍ مخضوب

وكأن الآفاقَ تَحْتَضِنُ الأرضَ

بآصالِها إطارٌ ذهيب

مَتّعِ العينَ إنَّ حُسناً تراهُ

الآنَ من بعدِ ساعةٍ منهوب

والذي يخلَعُ الأصيلُ على الأرض

بكفِّ الدُّجى أخِيذٌ سليب

منظرٌ للحقولِ إذ تُشرقُ الشمسُ

جميلٌ وإذ يَحيِنُ الغروب

ولقد هزّني مسيلُ غديرٍ

مِنْ على جانبيهِ روضٌ عشيب

يُظهِر الشيءَ ضدُّه .. وتُجارى

بسواها محاسنٌ وعيوب

وكذاكَ المرعى الخصيبُ يُحلّيه

إلى الناظرينَ مرعىً جديب

ثمَّ دبَّ المَساءُ تَقْدمُه الأطيارُ

مرعوبةً وريحٌ جَنوب

وغناءٌ يتلو غناءً ورُعيانٌ

بقُطْعانِهم تَضيقُ الدروب

يَحْبِسُ العينَ لانتشار الدياجي

في السَّما منظرٌ لطيفٌ مَهيب

شفَقٌ رائعٌ رويداً رويداً

تحتَ جُنحٍ من الظلام يذوب

وترى السُحبَ طيَّةً تِلوَ أُخرى

قد أُجيد التنسيقُ والترتيب

وتراها وشعلةً الشفقِ الأحمرِ

تبدو أثناءها وتغيب

كرَمادٍ خلاَّهُ وانزاحَ عنه

قبسٌ وسْطَ غابةٍ مشبوب

ثمَّ سدَّ الأفقَ الدُّخانُ تعالى

من بيوتٍ للنارِ فيها شُبوب

منظرٌ يبعثُ الفراهة والأنسَ لقلبِ

الفلاّح حين يئوب

يعرفُ اللقمةَ الهنيئةَ في البيتِ

مُجدٌّ طولَ النهار دَءوب

بُرهةً ريثما انقضى سمرٌ

تقطرُ لطفاُ أطرافُه وتَطيب

واستقلَّ السريرَ أو حُزمةَ القشِّ

أريبٌ . نِضْوٌ . حريبٌ . تَريب

سكنَتْ كلُّ نأمةٍ واستقرَّتْ

واستفزَّ الأسماعَ حتَّى الدَّبيب

واحتواهمْ كالموتِ نومٌ عميق

وتغشَّاهُمُ سكونٌ رهيب

ولقد تَخرِقُ الهدوءَ شُويهاتٌ

وديكٌ يدعو وديكٌ يُجيب

أو نداءاتُ حارسٍ وهو في الأشباح

لاحتْ لعينه مستريب

أو صدَى " طَلقةٍ " يبيتُ عليها

أحدُ الجانبينِ وهو حريب

تركَ الزارعُ المَزارعَ للكلب

فأضحى خلالَهنَّ يجوب

شامخٌ كالذي يُناطُ به الحكمُ

له جَيئةٌ بها وذُهوب

كانَ جُهدُ الفلاّحِ خفَّف عنه

جَهدهُ فهو مُستكِنٌّ أديب

وهو في الميلِ غيرهُ الصبحَ وحشٌ

هائجٌ ضيِّق الفؤادِ غَضوب

فاحصٌ ظُفْرَه ونابيهِ أحلى

ما لديهِ أظفارهُ والنُيوب

إنَّه عن رِعاية الحَقلِ مسئول

على ترك أمره معتوب

وكثيراً ما سرَّه أنَّه بات

جريحاً .. ورأسًه مشجوب

ليرى السيّدُ الذي ناب عنه

أنَّ حيوانَه شُجاعٌ أريب

ولكيلا يرى مُسامحةً

يَعدِلُ منها لغيره ويُنيب

للقُريَّاتِ عالَمٌ مُستقلٌّ

هو عن عالَمٍ سواه غريب

يتساوى غروبُهم وركودُ النفس

منهم وفجرهُم والهبُوب

كطيور السماءِِِ همّهُمُ الأوحدُ

زرعٌ يرَعْونه وحبوب

يلحظون السماءَ آناً فآناً

ضحكُهم طوعُ أمرها والقُطوب

أتُرى الجوَّ هادئاً أمْ عَصوفاً

أتصوبُ السماء أمْ لا تصوب

إن يومَ الفلاّحِ مهما اكتسى حُسناً

بغير الغيومِ يومٌ عصيب

وهو بالغيمِ يخنقُ القلب والأفقَ

جميلٌ في عينه محبوب

للقُرى روعةٌ وللقرويِّين

إذا صابَ أرضهم شُؤبوب

تُبْصِرُ الكلَّ ثمَّ حتى الصَّبايا

فوقَ سِيمائهم هناءٌ وطِيب

يُفرِح البيتَ أنَّه سوف تُمسي

بقراتٌ فيه وعنزٌ حَلوب

ويرى الطفلُ أنَّ حصتَّه إذْ

يُخصبُ الوالدان ثوبٌ قشيب

أذكياءٌ .. عيونُهم تسبقُ الألسُنَ

عمَّا ترومه وتنوب

والذي يَستمدُّ من عالم القريةِ

وَحياً وعيشةً لَلبيب

مطمئنونَ يحلُمونَ بأنَّ الخيرَ

والشرَّ كُلّهُ مكتوب

لا يطيرونَ من سرورٍ ولا حزنٍ

شَعاعاً ، لأنه محسوب

ولقد يغضَبون إذ ينزلُ الغيثُ

شحيحاً ...والأرضُ عطشى تلوب

أتُرى كانَ يعوِز اللهَ ماءٌ

لو أتتْ دِيمةٌ علينا سَكوب

ثمَّ يستفظعون إثمَ الذي قالوا

فينوونَ عندهُ أنْ يتوبوا

فإذا الشمسُ فوقهم فيقولون :

أعُقبى إنابةٍ تعذيب ؟

أفإيمانُنا بعيدٌ عنِ الخيرِ

وُكفراننا إليه قريب..!

هكذا يَرجِعُ التقىّ أمامَ

العقلِ وهو المشكِّكُ المغلوب

قلتُ إذ رِيعَ خاطري من مُحيطٍ

كلُّ ما فيه موحشٌ وكئيب

ليس عدلاً تشاؤمُ المرءِ في الدنيا

وفيها هذا المحيط الطَروب

مِلءُ عينيكَ خضرة تًستسرٌّ

النفسُ منها وتُستطار القلوب

عندَهم مثلَ غيرِهم رغباتٌ

وعليهمْ كما عليه خطوب

غير أنّ الحياةَ حيثُ

تكونُ المدنيَّاتُ جُلّها تعذيب

كلَّما استُحدثتْ ضروبُ أمانٍ

أعقبتها من البلايا ضروب

وكأنَّ السرورَ يُومِض برقاً

من خِلال الغيومِ ثمَّ يَغيب

لا ترى ثَمَّ – غيرَ أن يتركَ الحبُّ

شحوباً – وجهاً علاهُ الشحوب

ثمّ لاشيء عن سنا الشمس ممنوعٌ

ولا عن طلاقةٍ محجوب

الهواءُ الهبَّابُ ، والنورُ ،

والخضرةُ تأتي ما ليس يأتي الطبيب

ثمّ باسمِ الحصادِ في كلّ حقلٍ

تتناجى حبيبةٌ وحبيب

قال فردٌ منهمْ لأخرى وقد

هَيَّجَ نفسيهما ربيعٌ خصيب

طابَ مَنشا زروعِنا فأجابت :

إنَّ نشءاً يرعاهُ كْفءٌ يطيب

قال ما أصبرَ الحقولَ على الناسِ

فقالتْ ومثلُهنَّ القلوب

إنّ ما تفعلُ المناجلُ فيها

دونَ ما يفعلُ الشجا والوجيب

ينهضُ الزرعُ بعدَ حصدٍ وقد

يُجتثُّ من أصله فؤادٌ كئيب

يا فؤادي المكروبُ بعثرَكَ الهمُّ

كما بُعثِرَ الثرى المكروب

وعيوني هلاّ نَضبتِ .. وقد ينضبُ

من فرطِ ما يسيل القليب

عندَهم منطقٌ هنالكَ للحبِّ

جميلٌ وعندَهم أُسلوب

ولهم في الغرامِ أَكْثَر ممّّا

لسواهمْ مضايقٌ ودروب

مُلَحٌ خُصصِّتْ لهم ونِكاتٌ

ملؤهنَّ الإبداعُ والتهذيب

ثَمَّ تحتَ الستارِ ممتَلكٌ بالحبِّ

عفواً .. ومثلُه مغصوب

إنهمْ يُذنبونَ . ثم يقولون:

محالٌ أنْ لا تكونَ ذُنوب

نحنُ نبتُ الطبيعةِ البِكرِ فينا

حسناتٌ منها .. وفينا عيوب

بنتُنا وابنُنا معاً يرقُبانِ الزرعَ

والضرعَ .. والضمير رقيب

ليس ندري ما يفعلانِ ولا نعلمُ

عمَّا زُرّتْ عليه الجيوب

ما علينا ما غابَ عنَّا فعندَ

اللهِ تُحصى مظاهرٌ وغيوب

غيرَ أنَّا ندري وكنَّا شباباً

نتصابى أنَّ الجمالَ جَذوب

والفتى ما استطاعَ مُندفِعٌ نحو

الصباباتِ .. والفتاةُ لَعوب

بالتصابي يُذكي الشبابُ ويغتُّر

كما بالرِّياح يُذكى اللهيب

ثمّ عندَ اللقاء يُعرفُ إن كان

هنلكم " نجيبةٌ ..! " أو نجيب..

إنّ بعضَ الرجال يبدو أمامَ الحبِّ

صُلباً والأكثرون يذوب

والتجاريبُ علَّمتنا بأنّ المرءَ

غِرٌّ يُقيمه التجريب

ليس بِدعاً أن نَستريبَ ولكن

نتمنىَّ ألاّ نرى ما يُريب

ليس فينا والحمدُ للهِ حتى الآنَ

بيتٌ " إناؤهُ مقلوب "

فإذا كانَ ما نخافُ فهرقُ الدّمِ

سهلٌ كما تُراقُ ذَنوب

منطقٌ للعقولِ أقربُ ممَّا

يدَّعيه أخو عَفافٍ مُريب

ولقد يرمزونَ " عنَّا " بأنَّا

كلُّ ما في محيطنا مَثلوب

فيقولون: قد تطيحُ من العارِ

بيوتٌ .. وقد تثورُ حروب

والخَناسبَََََّةٌ علينا ولكن

في القُرى كلُّ ناقصٍ مسبوب

عندنا كالفتى " الخفيفِ " لئيمٌ

وجبانٌ ، وغادرٌ ، وكذوب

يُخجِلُ الناسَ في القُرى أنَّ فرداً

من أُلاءٍ عليهمُ محسوب

إنَّه من خصائص المدنيَّاتِ

إليها شنارهُم منسوب

في القُرى يوسعوننا وصماتٍ

مُخجِلٍ أمرها " البداةَ " مَعيب

فيقولونَ : كلُّ شيءٍ صريحٍ

عندنا – عندكم خليطٌ مَشوب

شُوّشَتْ منكم وسيطتْ سِماتٌ

ولُغاتٌ ولهجةٌ وحليب

إنَّكم من نماذجِ العَربِ الساطينَ

ظُلماً عليهم تعريب..!

كجليبٍ من البضائعِ يأتيكم من

العالمينَ وجةٌ جليب

هو منكمْ كالأهلِ في كلِّ شيءٍ

وهو فينا عن كلِّ شيءٍ جنيب

إنَّكم تمدحونَ خُبثاً وعدواناً

وغدراً كأنما المرءُ ذيب

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن محمد مهدي الجواهري

avatar

محمد مهدي الجواهري حساب موثق

العراق

poet-jawahiri@

216

قصيدة

2

الاقتباسات

1936

متابعين

محمد مهدي الجواهري (26 يوليو 1903 – 27 يوليو 1997): شاعر عربي عراقي، يعتبر من بين أهم شعراء العرب في العصر الحديث. تميزت قصائده بالتزام عمود الشعر التقليدي، على جمال ...

المزيد عن محمد مهدي الجواهري

اقتراحات المتابعة

أضف شرح او معلومة