الديوان » عبدالله عباس خضير » منذ عبرنا البستان

(الجَرّة)
 
كنّا نظنّكَ آخِر الدّنيا
وبعدَك يبدأ المجهولُ
غيلانٌ ، أسودٌ ، همسُ أشباحٍ
ومن يعبرْ نخيلَكَ موهناً ، 
لا بدّ ، تخطفْهُ السّعالي ،  
في الصّباحِ نجُسّ مغتبطينَ جذعَ النّخلِ
لا قدمٌ لسَعلاةٍ ، 
تطيرُ فواختٌ ،
أمٌّ تصيحُ ، 
قناطرُ الماشينَ يجرُفُها صعودُ المدِّ
يصعدُ جدّنا عندَ الضّحى الملساءَ ،
تلك النّخلةَ الملساءَ، هُزَّ عذوقَها
هي هَزّة أو هَزّتانِ ، تساقطتْ رُطباً ،
تساقطنا نُثاراً بعدَ ذاك الصيفِ ،
والبستانُ يعبرُنا إلى موتٍ ،
ونعبره ، إلى المجهول ، لا ندري ،
حدودُ الأرض تُوصَدُ في نهايته
وكان الحتفُ منتظراً خطانا
لو تجرّأ بعضُنا أن يعبرَ البستانْ
 
جئـــــــــنا وأوّلُ من غنّى لنا الوجعُ
جرحُ ال(دِلِلُّــــولْ)فينا اليومَ يتّسعُ
نمشي ونُخــــــفي جراحاتٍ تمزّقنا 
متى يمَلُّ وحـــــــــــادي عمرِنا يقعُ
الدّمعُ صاحبَـــــنا من يومِ صرختِنا   
وحاكتِ الخِــــرقةَ الأولى لنا البِدَعُ
سرنا معًــــــــا ليس من نورٍ ولا ألقٍ      
إلا عواصـــــــــــفَ لا تُبقي ولا تدعُ
كان النخيــــــلُ لنا في العادياتِ أبًا   
بكلِّ جودِ عطـــــــــــاءِ النّخلِ ننتفعُ
الهورُ ملعــــــــــــبُنا والنخلُ خيمتُنا     
طفولةٌ حصّنتْـــــــــــها الآيُ والوَدَعُ
حتى سُبينا وباعـــــــوا عُنــوةً دمَنا    
كما تباعُ بســـــــــــوقِ القريةِ السّلعُ
لهفي على كلِّ حــــبٍّ هدهدتْ يدُهُ  
قلوبَنا رغـــــم مَن قالوا ومن منعوا
لهفي على كلِّ دربٍ صــــان موعدَنا  
وكلِّ واشٍ على الأبـــــــوابِ يستمعُ
أُحبُّهم رغــــــــم ما قالوا وما زعموا     
يا ليتهم بعدما غابــــــــوا بنا رجعوا 
أمرُّ ليس سوى الغـِــــــــــربانِ ناعقةً
وليس إلا على أبــــــــــــــــوابِها لُكَعُ
ياحاديَ الدّربِ طوّحْ ليس من قبسٍ
وليس لي في ربـــــوعِ الدّارِ منتجَعُ
 
منذ عبرْنا البستانْ
كان الحدّ الفاصلَ
بين حدود الدنيا
وحدود الفرح الراكضِ
في أقدام الصبيانْ
عائلةُ البستانِ تشظّتْ
في الطّرق الموبوءةِ والوديانْ
والنخلُ تناثرَ أشلاءً ، 
شاخ الصِّبيَةُ ، والتفّتْ
بإزار الدمعِ النسوانْ
غاب الناعورُ عن الشطِّ
وعاثتْ بالتمر الغربانْ
عائلةالبستان اليومَ
بلا وجهٍ أو عنوانْ 
 
هي من طينةِ القرى
وإليها حنينُها 
جَرّةٌ قد تفتتْ
للقرى عادَ طينُها
 
سأغلـــقُ البـــــابَ يا قلبي وأقفــلهُ
فمَـــن تلــــومُ ومَن يا قلـــبُ تسألهُ
اليومَ تُطــــــــــــفيءُ تاريخًا بأكملهِ
فقد مضى من هو التاريـــــخُ أكملُهُ
واليـــــومَ تبكي من الأيّـــامِ أجملَها
فلن يزورَكَ من ماضيـــــكَ أجمـــلُهُ
تقولُ عـــــــــلّ عســى لكنّها رحلتْ
ماذا تقـــــولُ ومــاذا أنـــــتَ فاعلُهُ
لنا مسيــــــــرةُ عشقٍ ألـــــفُ رائعةٍ
أهكـــــذا تدفـــــنُ المــاضي وتقتلُهُ
ما كان يعرفُ قلــبٌ كنــــتَ تطفؤهُ
بأنّك اليومَ حــــدَّ الوهــــــجِ تشعلُهُ
وما درى أنّ ترحــــالَ الهــوى وجَعٌ
وآخــــــرُ الـــدّربِ قتّــــــالٌ وأوّلُــهُ 
لملمْ جراحَكَ وارتقها على مضــضٍ
فبين جنبيـــكَ جرحٌ كيـــف تحملُهُ
 قلبٌ إذا مرّتِ الذكـــــــــرى تؤرّقه
بمَــــــن تُــرى بعد ترحــــــالٍ تعلّلُهُ
تمشي الجـــراحُ بنا والدرب ينزفُنا
وليس من مُعشبٍ في الدربِ ننزلُهُ
ريـــحٌ بنا استذئبتْ لا ظلَّ يُنجـدُنا
وقد جثا من ســـــــوادِ الليلِ كلكلُهُ
حادي القوافلِ أعمى والسُّــرى عَثَرٌ
نجثــو على الصّخرِ إعيـــاءً ونركلُهُ
جفّ الفــؤادُ ولا نــبعٌ يلـــــــــوذُ بهِ
إلاّ دمــــوعَ أسىً حـــــرّى تبــــــلّلُهُ
يسيربي ليس يدري والأسى جملي
بدمـــع مقلتـــيَ الحـــــــرّى أجــللّهُ
الــــــــدّهر يقتلنا في كـــلّ منعطفٍ
ونحن بالعشـــــق والأشعــــارِ نقتلُهُ
وراحــــلٌ والهــوى العـذريُّ راحلتي
كـــــــم بــدّلوا غيـــرَ أنّــــي لا أبدّلُهُ
 
هي من طينةِ القرى
وإليها حنينُها 
جَرّةٌ قد تفتتْ
للقرى عادَ طينُها
 
مثلَ زُجاجِ آخِرِ الحاناتِ
في آخِرِ ليلٍ حينما يشتبكُ السّكارى
والمهرّجاتُ يخلعنَ وجوهَ الليلِ والأصباغَ،
قد تناثرتْ في يدِكَ الأيامْ
وقبلَ أن تكرعَ من آخِرِ كأسٍ ، قبلَ أن تنامْ ،
في حضنِها بغيرِ ميعادٍ مع الصّباحِ ،
قبلَ أن تهبطَ في بوّابةِ الظّلامْ
آخِ رمالَ الدّربِ ، آخِ النّملَ والهَوَامْ ...
 
هي من طينةِ القُرى
وإليها حنينُها 
جَرّةٌ قد تفتتْ
للقُرى عادَ طينُها
 
حين وصلنا آخرَ الطريقْ
تبددتْ كالرملِ أغنياتُنا
وغاب عن أعيننا البريقْ
يا زهرةَ الحياةِ
خبأتِ لمن
لمن لمن؟؟؟ عطرَكِ والرحيقْ
 
هي من طينةِ القُرى
وإليها حنينُها 
جَرّةٌ قد تفتتْ
للقُرى عادَ طينُها
 
ماذا تركنا خلفنا
يا أيّها الحادي
لمستَنا
باقةَ زهرٍ ربّما 
رسالةً ساعةَ ميعادِ
الصوتُ يدعونا إلى الوادي
 
هي من طينةِ القُرى
وإليها حنينُها 
جَرّةٌ قد تفتتْ
للقُرى عادَ طينُها

نبذة عن القصيدة

المساهمات


موهناً

(المَوْهِنُ : نحوٌ من نصف الليل، أَو بعد ساعةٍ منه).

تم اضافة هذه المساهمة من العضو نوفل


معلومات عن عبدالله عباس خضير

عبدالله عباس خضير

78

قصيدة

شاعر من البصرة جنوبي العراق، ليسانس في اللغةالعربية وآدابها ، تتلمذ على يد الشاعرة نازك الملائكة والشاعر د.البياتي ، له سبع مجموعات شعرية مطبوعة أولاها قراءة في سيرة التتار / بغداد عام 2000م

المزيد عن عبدالله عباس خضير

أضف شرح او معلومة