الديوان » الأب يوسف جزراوي » قارئةُ الفنجانِ

 

قارئةُ الفِنْجَانِ
 


في مقهًى بِضواحي الشّامِ
وقفتْ أمامي فتاةٌ كزهرةِ الأرجوان...
عَلى وسادةِ فمهِا سرٌّ يَنَامُ
وفي عَيْنيها نظرةُ اِستحسانٍ!
سأَلْتُهَا:هَلْ ضلّلتِ العنوان؟!
أجابت: كلا...وَلَا
أنَا عرّافةُ المكانِ!.
......
سارتْ تَتَمايلُ كَغُصّنِ البانِ
على المِنْوالِ نَفْسِهِ
مُتنقلة بينَ الجالِسينَ
ولِسانُ الحجْلِ خَلْخالِها في غِنَاءٍ!
ثُمَّ عادَتْ تُحَدِّقُ إِليَّ ونطقتْ:
يَا أديبَ العِراق
مَا بالُ عَيْنيْكَ ذاتُ شَجَنٍ ومَا اِكْتحلتْ بِغمضٍ؟!
.........
جَلسْت عَلَى طَاولتي دون اِستئذانٍ مِنّي
وَبينَ يديِها المُكتظّةِ بِالوشْمِ...
مِبخَرةٌ يَتَطايرُ مِنْها الدُّخَان...
تَفَرَّستْ أَوَّلاً بِخطُوطِ كفي..
وَبَدَأَت تقرأُ لِي الفِنّجان
بِصوتٍ رخِيمٍ خَافِتٍ وَسَطَ ضَجَّةِ الزِّحامِ!
..........
صَمْتت...حدّقت... تَمَعَّنتْ...
ومِنْ ثَمَّ قَرأتْ...
ولَا أعلمُ عَلاَمَ شاحَتْ بِوجههِا عَنْ قعرِ الفِنْجانِ
كَمن لدغهُ الثَّعبانُ؟!
حدّقتُ بِها مليًّا ...
فلَمعت عيناها الجميلتانِ باِبتسامةٍ..
كافَحتِ للظُّهورِ مَا بيّنَ الدُّموعِِ!
وقالتْ:
تَتَلقّى مُكالَمةً مِنَ الغُربِةِ مفادُهَا أنَّ حياتُكَ مليئةٌ بِالأسفارِ...
وَليسَ مِنَ خيارٍ أمامكَ سِوَى الارتحالِ..
فالوطنُ مُطوَّقٌ بِالحروبِ والأسوارِ!.
.......
أكملتْ وَالخوفُ فِي عَيْنَيَها:
عَيْناكَ مُلَبّدةٌ بِالأحزانِ...
وَفنجانكَ يكتَظُّ بالأسرارِ والمعاني..
فَالنّوى تَنكَأُ لَكَ دُرُوبًا...
لِتمضي بِكَ الأسفارُ مشاويرَ...
لَيْسَ لَهَا استقرارٌ إلاّ مِنْ بَعْدِ حينٍ!.
.........
يَا اِبنَ الرَّافِدينِ
لَديّكَ مِنَ الإرادةِ والطَّموحِ والإصرارِ
لتجوبَ البراريَّ والصحاريَّ والوِديْانِ..
وتَتَودّدُ لِنخلةٍ عانقتِ السّماء
وتتأمّل بحرًا امواجه تداعب وردة الياسمين...
لكنّك ستشكم جراح غُربتكَ بملحِِ الصَّبْر والاِنتظَارِ!
ولأوّلِ مرّةٍ سيحلو الصَّبْرَ في عَينيكَ!
وَلكِنْ لا تفرح يَا صاح
فالاِنْتظَارُ سيجلسُ على مقعدٍ بِقربكَ
يُثرثرُ كثيرًا بِبلادةٍ...
ينتظرُ بِفارغِ الترقبِ مكالمة مِن وطنٍ يدعى الانتظَار!
.......
أسفارُكَ حُبْلّى بالهمومِ كجبلٍ على سفحهِ الغُيُوم
فَتُطيلُ المُسكِّعةُ مِنَ الأرضِ فِي طُرقٍ تتسعُ للغرباءِ...
مثلَ عابرِ سبيلٍ ليسَ لهُ إيابًا!!
تبحثُ عَنْ وَطَنٍ نَاءت عَنْهُ الدُرُوبٌ!!.
بَيْنَما ظِلّكَ المُنهكَ يقتفي أثركَ
ليمنحكَ ثوبًا حاكتُهُ الغُربةُ عَلَى مقاسِكِ!


........
لَا تبالِ يَا صاحبي
ستنجحُ ويضيءُ نجمكَ في سماءِ النّوى
وستحلّقُ كُتُبكُ ومطبوعاتكَ بجناحِ الانتشارِ
في فضاءاتِ العديد مِنَ مكْتباتِ البُلدانِ.
كَما ستصادفكَ وجوهٌ كثيرةٌ
تبدو لكَ بريئةً كالأزهارِ
ولكن أحذر يَا فتى: فَالناسُ نوعانِ:
أخيارٌ وأشرارٌ...
أوصدَ فِي وجوههِم أبوابِ الطِّيبةِ
لئلَّا تُرددَ مَعَ القائلينَ:
إتقِ شرَّ مَنْ أحسنتَ إِليهِ!!.
........
يَا فتى بغداد في الشّام
مَا كُلُّ هذَا الأسى فيكَ...
لَمْ أقرَّأ في عمري فنجانًا مثل فنجانكَ!
فدعني أقرُّأ حظًا مُغَايرًا لكَ...
وَلمَّا لَامَسَت يُدها الحصى
طَأْطَأَت رَأسَها كسنبلةٍ صفعها الإعصارُ
وَعَلى بابِ لِسانِها تَعثّرَ الْكَلامُ..
حتّى اِغْرورقت الدُّمُوعُ في عيْنيْها...
فَقالَت:
أعلمُ يَا يوسفَ
إنَّ الغُربةَ لا تليقُ بِكَ
لِكنّكَ ستمضي في سفرٍ طويلٍ...
ولن تستريحَ خيول ترحالكَ...
فأحمل معكَ مبخرةً وشموع صلاة حولكَ
وحقيبة تضمُ قُرطاسًا مدبوغًا برمالِ بحارِ تأمّلاتكَ...
فإنْ تُفتنُ مدينةٌ بِكَ وتمنحكَ جنسيتها وحقّ المُواطنة لكَ
فهذَا أنَّ بلدكَ قد لفظكَ
قبل أن يلفظ أنفاسهُ الأخيرة
وإنَّ بلدًا أخر وقعَ في غرامكَ.
وليسَ عَلى المغتربِ حرجًا في ذلكَ!.
........
نهضتُ مِنَ الطاولةِ وسألتُها بدهشةِ اِستغرابٍ:
أيّتُها العَرَافةُ بحقِّ السّماءِ
مَا هوُ برجكِ؟ وَفِي أيِّ مدينةٍ تُقيمينَ؟!
أجابت:
ومنذُ متى تُسألْ العُرافةُ عن إقامةٍ؟!.
رحلتْ وَمَعَها الفِنْجانُ...
تُلَمَّلمُ رموشًا تَكَسَّرت فوقَ جفونِها النَّاعِسةِ
لتتركني صاخبًا في أحَاديثها!
........
نفثتُ دخان سيجارتي عَلى خطواتِها
وقلتُ لِنَفسي:
كذَّب المنجمونَ ولو صدقوا!
لَكن عَلى مَا يبدُو
أنّها صَدَقتْ في كِذبها!!.


هذهِ القصيدةُ النثرية كتبتها في الشّام مطلع عام 2008 لقصّة حقيقيّة
وقد نشرتها فيما بعد في أكثر من صحيفة وموقع الكتروني، ثم ضممتها إلى كتابي الأدبي في ( البدء كانَ العراق، في طبعته الأولى 2021).

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن الأب يوسف جزراوي

الأب يوسف جزراوي

84

قصيدة

كاهن وباحث/شاعر وأديب عراقي مغترب له العديد من المؤلفات في الشأن الكنسي والأدبي وتاريخ العراق

المزيد عن الأب يوسف جزراوي

أضف شرح او معلومة