الديوان » عمار شاهر قرنفل - الرحال » سَارَةُ.. تَتَرَاقَصُ فِي شَرَايِينِ المَوْتِ

هَمَسْتُ… وَصَوْتِي كَانَ أَطْيَافَ نَايْ

يَذُوبُ كَمَا الثَّلْجِ فِي شَفَتَيْكِ…

وَيَمْضِي إِلَى مَا يَشَاءُ الْفَنَاءْ

وَكَانَتْ يَدِي – فِي الْمَدَى – شَاحِبَاتٍ

كَأَوْرَاقِ تِشْرِينَ تَحْتَ الْهَوَاءْ

وَكَانَ السَّرِيرُ كَمِئْذَنَةٍ فِي الْفَضَاءْ …

يُؤَذِّنُ لِلْحُبِّ فِي لَحْظَةِ الاحْتِضَارِ…

وَلَا أَحَدٌ فِي النِّدَاءْ

أَجْهِزَةُ الْقَلْبِ كَانَتْ تَنَامُ وَتَصْحُو

كَنَبْضِ الْقَصِيدَةِ حِينَ تَشَاءْ

وَكَانَتْ نُدَفُ الضَّوْءِ فَوْقِي

كَسِرْبِ الْفَرَاشَاتِ مَكْسُورَةَ الْجَنَاحِ…

تَمِيلُ إِلَى الانْطِفَاءْ

أَنَا لَا أَزَالُ هُنَا

رَغْمَ أَنْفِ الرَّحِيلِ… أُحِبُّكِ

رَغْمَ ارْتِجَافِ الدَّقَائِقِ…

رَغْمَ النُّعَاسِ الثَّقِيلِ

عَلَى وَجْنَتَيَّ الْهَوَاءْ

سَارَةُ… كُلُّ الْجِرَاحِ الَّتِي فِي دَمِي… لَا تُسَاوِي

نِدَاءَكِ إِنْ قُلْتِ: “أَنْتَ بِخَيْرْ”

وَكُلُّ الْمَسَافَاتِ…

لَا تُطْفِئُ الْآنَ نَارَ الْغِيَابِ

الَّتِي تُحْرِقُ الْقَلْبَ، وَالْمِلْحَ، وَالذِّكْرَيَاتْ…

تَذَكَّرْتُ عَيْنَيْكِ…

وَالدِّفْءَ يَمْشِي عَلَى رَاحَتَيْكِ…

كَأَنَّكِ ضَوْءُ الْكَنَائِسِ فِي الْفَجْرِ

حِينَ يُصَلِّي الْمَكَانُ وَيَبْكِي…

وَحِينَ تَصِيرُ الْجِرَاحُ صَلَاةْ

أَلَا تَسْمَعِينَ…

نِدَاءَ الْجُفُونِ الْأَخِيرْ؟

وَهَمْسَ النِّهَايَاتِ فَوْقَ السَّرِيرْ؟

أَنَا لَا أَمُوتُ إِذَا كُنْتِ فِي لَحْظَتِي…

أَنَا أُبْعَثُ الْآنَ…

مِنْ بَيْنِ قَطَرَاتِ سِيرُومِهِمْ

كَأَنِّيَ قُمْتُ مِنَ الْحُزْنِ

أَوْ قُمْتُ مِنْ شَفَتَيْكِ…

فَجْأَةً…

أَشْرَقَتْ فِي الْجِدَارِ الطَّفِيفَةِ نَافِذَةٌ مِنْ ذَهَبْ

وَارْتَفَعَتْ سِتَارَةُ الضَّوْءِ شَيْئًا… فَشَيْئًا…

كَأَنَّ الصَّبَاحَ تَعَمَّدَ أَنْ لَا يَجِيءَ

إِلَّا مَعَكْ

دَخَلَتْ…

وَكَانَتْ كَمَاءٍ تَقَاطَرَ مِنْ حُلْمِ أُمِّي

وَكَانَتْ كَمِئْذَنَةٍ فَوْقَ خَدِّ الْغِيَابْ

وَكَانَتْ كَالنَّجْمْ

حِينَ يُصَافِحُ لَوْنَ الْغُرُوبِ

فَيَمْحُو الظَّلَامْ

“صَبَاحُكِ خَيْرٌ”…

كَأَنَّ الْجَنَاحَ الَّذِي سَقَطَ الْأَمْسَ مِنِّي

نَمَا مِنْ جَدِيدٍ عَلَى كَتِفَيَّ

كَأَنَّ الْحَنِينَ ارْتَدَى مِعْطَفًا أَبْيَضًا

وَدَخَلْ

“سَلَامَتُكَ الْآنَ أَفْضَلْ”…

كَأَنَّ الْحَيَاةَ بَدَأَتْ مِنْ جَدِيدْ

وَأَنَّ الْعُرُوقَ تَذَكَّرَتِ النَّبْضَ

وَالْقَلْبَ عَادَ يُلَوِّنُ هَذَا الْجَلِيدْ

سَأَلْتُ…

وَكَانَ السُّؤَالُ جَرِيحًا، وَوَجْهُ الْحَقِيقَةِ مَبْتُورْ:

“مِنْ أَيْنَ جِئْتِ؟”

فَقَالَتْ بِصَوْتٍ خَفِيفٍ…

كَمَا تَتَكَلَّمُ شَمْسُ الْجَنُوبِ عَلَى خَدِّ طِفْلْ:

“أَنَا مِنْ حَلَبْ…

وَمِنْ بَيْتِ أُمِّي الَّذِي ظَلَّ وَاقِفًا رَغْمَ مَوْتِ الْجُدُرْ

وَمِنْ ضَحْكَةِ الْأُخْتِ حِينَ تَعُودُ مِنَ الْمَدْرَسَةْ

وَمِنْ لَهْجَةِ الشَّامِ لَمَّا تَحِنُّ عَلَى غُرْبَتِي…

فِي الْغُرَبْ”

وَكَانَتْ مَلَامِحُهَا

تَمْنَحُ الدَّمْعَ رَائِحَةَ النَّعْنَـعِ الْبَرِّيِّ،

وَتَفْتَحُ الذَّاكِرَةَ…

كِكِتَابٍ قَدِيمٍ نَسِينَاهُ فِي أَوَّلِ الْحُبِّ…

لَكِنَّهُ مَا نَسِي

وَكَانَتْ إِذَا ابْتَسَمَتْ

يَنْثَنِي فَوْقَ عَيْنَيَّ ضَوْءُ الْعِرَاقْ

وَتَنْزِفُ مُوسِيقَى الرَّافِدَيْنِ

عَلَى شَفَتَيْهَا اشْتِيَاقْ

كَأَنَّ الْجَزِيرَةَ نَامَتْ هُنَاكَ…

عَلَى رَقْصَةٍ مِنْ عَبِيرِ الرَّمْلْ

سَارَةُ…

هَلْ أَنْتِ؟

أَمْ أَنْتِ طَيْفُ انْبِعَاثِي؟

أَمْ أَنْتِ لَحْظَةُ مَوْتِي الْجَمِيلْ؟

وَهَلْ جِئْتِ كَيْ تُسْعِفِي الْقَلْبَ…

أَمْ جِئْتِ كَيْ تُنْقِذِي كُلَّ هَذَا الرَّحِيلْ؟

قُلْتُ لَهَا:

“مِنْ أَيْنَ جَاءَ عَبِيرُكِ؟

أَيُّ الْبِلَادِ كَتَبَتْ عَلَى وَجْهِكِ الْقَصِيدَةْ؟

هَلْ أَنْتِ مِنْ شَامٍ تَوَضَّأَتْ

بِالْعِطْرِ، أَوْ مِنْ نَجْدَ، أَمْ مِنْ رُبَا جُدَةْ؟”

فَقَالَتْ…

وَكَانَ الْحَنِينُ يُصَفِّقُ فِي صَوْتِهَا

مِثْلَ نَايٍ عَلَى ضِفَّتَيْهِ نَشِيدْ:

“أَنَا مِنْ بِلَادٍ

إِذَا مَسَّهَا الْحُبُّ تُنْبِتُ وَرْدًا

وَإِنْ مَسَّهَا الْحُزْنُ تُمْطِرُ شَهْدْ

أَنَا مِنْ نَوَافِذَ تُشْبِهُ قَلْبَكْ…

إِذَا انْفَتَحَتْ…

ضَجَّ مِنْهَا كُلَّ الْوُجُدْ”

“أَنَا مِنْ حَلَبْ…

مِنْ دَمْعِ زَيْتُونَةٍ فِي الْمَسَاءِ…

وَمِنْ قُبْلَةٍ نَامَ فِيهَا الْيَتِيمُ

وَمِنْ شُرْفَتِي حِينَ كَانَ أَبِي

يَنْثُرُ خُبْزَ الْحَمَامِ عَلَى الْأَرْضِ

كَيْ لَا يَجُوعَ الْأَمَلْ”

“أَنَا مِنْ يَرَاعِ النُّحَاةِ…

وَمِنْ لَهْفَةِ الطِّينِ حِينَ يُلَامِسُ مَاءَ الْقَصِيدَةْ

أَنَا مِنْ شَظَايَا الْحَنِينِ

وَمِنْ شَعْرِ أُمِّي…

وَمِنْ دِفْءِ فِنْجَانِهَا فِي الشِّتَاءِ الطَّوِيلْ”

فَقُلْتُ:

“كَأَنِّي رَأَيْتُكِ فِي الْحُلْمِ يَوْمًا…

وَفِي الدَّفْتَرِ الْأَنْدَلُسِيِّ الْقَدِيمْ

وَفِي الْمُوَشَّحَاتِ الَّتِي

أَنْشَدَتْهَا جَوَارِي الْقُصُورِ

وَفِي دَمْعَةِ الشَّوْقِ فَوْقَ الرُّخَامْ”

“كَأَنِّي رَأَيْتُكِ فِي “جَنَّةِ الْعَارِفِ”

تَمْشِينَ بَيْنَ الْمَدَى… وَالْمَدَى

كَغَزَالَةِ عِشْقٍ تَفِرُّ مِنَ الصَّمْتِ

كَيْ تَحْتَفِي بِالْغِنَاءْ”

“أَتَدْرِينَ مَنْ أَنْتِ؟”

فَقَالَتْ…

وَعَيْنَاهَا بَابَانِ لِلرِّيحِ وَالِانْتِظَارْ:

“أَنَا حَفِيدَةُ مَنْ غَابَ عَنْكُمْ…

وَعَادَ بِوَجْهِ الْقَصِيدَةْ

أَنَا شَامَةُ الْأَرْضِ إِنْ قَبَّلُوهَا…

تَفِيضُ مِنَ الْأَسْرَارْ”

فَقُلْتُ لَهَا – وَيَدِي لَا تَزَالُ

مُعَلَّقَةً فِي الْفَرَاغِ كَأَنِّي أُسَافِرْ –:

“إِذَا كُنْتِ مَا قُلْتِ…

فَأَنْتِ أَنَا…

وَأَنَا عَاشِقٌ ضَيَّعَتْهُ الدِّيَارْ”

صَوْتُهَا…

كَأَنَّهُ نَسْغُ نَخْلَةٍ

تَتَدَلَّى عَلَى شَفَتَيَّ

فَيَمْسَحُ عَنْ وَجَعِي نَوْبَةَ الْغُرْبَةِ الْمَاطِرَةْ

يَمُرُّ عَلَى قَلْبِي…

فَيُرْبِكُ الْأَجْهِزَةْ

كَأَنَّ الْمَدَى خَافَ مِنْ رَجْفَةِ الصَّوْتِ

وَاخْتَبَأَ فِي الزَّاوِيَةْ

صَوْتُهَا…

لَا يُسْعِفُنِي فَقَطْ

بَلْ يَسْحَبُنِي

مِنْ فَمِ الْمَوْتِ نَحْوَ الْقَصِيدَةْ

كَأَنَّ الْحَيَاةَ، وَقَدْ ضَاقَتْ

اتَّسَعَتْ مِنْ مَجَازٍ إِلَى مَجَازْ

كَأَنَّ الْبِلَادَ الَّتِي انْهَارَتْ فِي دَمِي

عَادَتْ لِتُشْعِلَ فِي لُغَتِي نَبْضَهَا

وَتَحْمِلُنِي… حَيْثُ كُنْتُ…

وَحَيْثُ انْتَظَرْتُ النِّسَاءَ…

فَلَمْ تَأْتِ إِلَّا “هِيَ”

وَكَانَتْ…

تَمِيلُ عَلَى كَتِفَيَّ بِضِمَادِهَا النَّاعِمِ

فَأَنْسَى الْأَلَمْ

وَتَفْتَحُ زُجَاجَةَ دَوَائِي…

فَأَسْتَنْشِقُ فِيهَا عَبِيرَ الْيَمَنْ

وَحِينَ تُدَوِّنُ حَرَارَتِي

يَنْبَعِثُ مِنْ صَوْتِهَا اللَّهَبُ

وَيُنَادِينِي الدَّمْ:

“تِلْكَ…

بِنْتٌ مِنْ بِلَادِي”

وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ تَقُولُ بِهَا اسْمِي

أَشْعُرُ أَنَّ الْقَصَائِدَ الْقَدِيمَةَ تَنَامُ عَلَى بَابِي

وَأَنَّ سَارَةَ، الَّتِي غَابَتْ…

لَمْ تَغِبْ

سَارَةُ الْأُولَى…

سَارَةُ الْمَوْجِ وَالضَّحْكَةِ السَّاحِلِيَّةِ

سَارَةُ الَّتِي كُنْتُ أَقْرَأُ فِي كَفِّهَا

خَرِيطَةَ وَجْهِي

وَأَغْسِلُ فِي شَعْرِهَا كُلَّ خَوْفِي

سَارَةُ الَّتِي كَانَ وَجْهُهَا

يُشْبِهُ تَمَامًا مَلَامِحَ هَذِهِ…

كَأَنَّ الزَّمَانَ دَارَ

وَفَتَحَ لِي بَابَهُ الضَّائِعْ

سَارَةُ الَّتِي كُنْتُ أَبْكِي عَلَيْهَا

إِذَا مَا تَلَفَّتَ الْحَنِينْ

وَأَسْأَلُ اللَّيْلَ:

هَلْ مَاتَتْ؟

أَمْ هَجَرَتْنِي؟

الْآنَ…

حِينَ أَرَاكِ تَقْتَرِبِينَ

يَشْتَعِلُ الْاسْمُ بَيْنَ ضُلُوعِي

وَأَسْمَعُ فِيكِ نِدَاءَ الْحَبِيبَةِ

وَأَرْتَجِفُ…

هَلْ جِئْتِ؟

أَمْ أَنَّهَا أَرْسَلَتْكِ…؟

أَنَا لَا أَخُونُ…

لَكِنَّ وَجْهَكِ حِينَ أَرَاهُ

تَتَبَعْثَرُ الصُّوَرُ الْقَدِيمَةْ

كَأَنَّ الْغِيَابَ اسْتَعَارَ مَلَامِحَكِ

لِيَخْتَبِرَ قَلْبِي

كَأَنَّ “سَارَةَ” أَرْسَلَتْكِ

كَيْ أَرْتَبِكَ…

كَيْ أَرْتَبِكَ…

وَأَتَعَثَّرَ فِي ظِلِّهَا مِنْ جَدِيدْ

سَارَةُ…

الَّتِي كَانَتْ

إِذَا ابْتَسَمَتْ

أَضَاءَتْ غُرْفَتِي فِي تِشْرِينْ

وَكَانَتْ

إِذَا بَكَتْ…

انْهَمَرَ تِشْرِينُ كُلُّهُ فِي الْيَدَيْنِ

سَارَةُ…

كَانَتْ تَرْسُمُ وَجْهَ الْوَطَنِ عَلَى الْوِسَادَةْ

تَقُولُ:

“نَمْ يَا حَبِيبِي…

غَدًا نُهَاجِرُ مَعَ السُّنُونِ

نَحْوَ الضِّيَاءْ”

فَنِمْنَا…

لَكِنَّهَا هَاجَرَتْ وَحْدَهَا

وَالْآنَ…

وَأَنْتِ أَمَامِي

تُشْبِهِينَهَا…

وَلَا تُشْبِهِينَ

عَيْنَاكِ فِيهَا مِنْ شِتَائِهَا

وَلَكِنْ…

لَيْسَتَا هُمَا

صَوْتُكِ…

حِينَ تَقُولِينَ: “خُذْ دَوَاءَكْ”

أَكَادُ أَسْمَعُهَا تَقُولُ:

“اشْرَبْ قُبْلَتِي قَبْلَ أَنْ تَنْسَى الطَّرِيقْ”

تَنْهَارِينَ فِي قَلْبِي

كَمَا تَنْهَارُ الذِّكْرَى عَلَى أَطْرَافِ نَوْمٍ قَدِيمْ

فَأَهْرُبُ…

لَيْسَ مِنْكِ

بَلْ مِنْهَا

أَتُرَاكِ سَارَةُ…؟

أَمْ وَجْهُهَا؟

أَمْ ظِلُّهَا؟

أَمْ طَيْفُهَا…

وَقَدْ عَادَ لِيَنَامَ عَلَى وِسَادَتِي؟

أَنَا لَا أَخُونُ…

لَكِنَّنِي لَا أَسْتَطِيعُ

أَنْ أُطْرَدَ سَارَةَ مِنْ دَمِي

وَلَا أَنْ أُنْقِذَكِ مِنْ مَلَامِحِهَا الَّتِي

تُقِيمُ عَلَيْكِ

حِينَ نَظَرْتُ فِي عَيْنَيْكِ…

رَأَيْتُ شَوَاطِئَ بَيْرُوتَ حِينَ كَانَتْ

تَغْسِلُ هَمَّ الشَّرْقِ بِأَنْغَامِ فَيْرُوزْ

وَرَأَيْتُ قَاسِيُونَ…

يَبْكِي عَلَى كَتِفِ الْغَيْمْ

وَيَقْرَأُ سُورَةَ الْوَدَاعْ

وَرَأَيْتُ بَغْدَادَ…

تَحْمِلُ أَسْمَالَهَا وَتَمْشِي

فِي صَدْرِكِ الْمُتْعَبِ

بَاحِثَةً عَنْ مَوْطِنٍ لَا يُقْصَفْ

وَفِي خَجَلِكِ

رَأَيْتُ نِسَاءَ الْمَوْصِلِ

يُطْفِئْنَ النَّارَ

بِجِرَارِ الْمَاءْ

وَيُحْكِمْنَ جَدَائِلَهُنَّ

كَيْ لَا تَسْقُطَ الْمُدُنْ

وَفِي خُطْوَتِكِ…

كَانَ ظِلُّ قُرْطُبَةْ

يَتْبَعُكِ كَالطَّيْفِ الْحَزِينْ

كَأَنَّ الْأَنْدَلُسَ

مَا زَالَتْ تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ

فِيكِ

أَمَّا وَجْهُكِ…

فَقَدْ قَرَأْتُهُ فِي كُتُبِ الْمَدْرَسَةْ:

لَيْلَى…

حِينَ كَانَتْ قُبْلَةً تَتَخَفَّى فِي الْقَصَائِدْ

الْخَنْسَاءُ…

حِينَ تَرَفَّعَتْ عَنْ دُمُوعِ الضَّعْفْ

زُنُوبِيَا…

حِينَ قَادَتْ قَلْبَهَا وَسَيْفَهَا

إِلَى مَجْدٍ مُؤَقَّتٍ…

ثُمَّ إِلَى النِّسْيَان

أَنْتِ لَا تُشْبِهِينَ أَحَدًا

لَكِنَّكِ تُشْبِهِينَ الْجَمِيعْ

تُطِلِّينَ…

فَأَرَى كُلَّ نِسَاءِ الرَّافِدَيْنْ

وَكُلَّ دُمُوعِ الْأَنْدَلُسْ

وَكُلَّ نِدَاءَاتِ “فِلَسْطِينْ”

كَأَنَّكِ جَمَعْتِ فِي ابْتِسَامَتِكِ

أَلْفَ سَنَةٍ مِنْ خَيْبَاتِنَا

وَأَلْفَ قُبْلَةٍ ضَائِعَةٍ فِي التَّارِيخْ

فَهَلْ أُحِبُّكِ…

أَمْ أُحِبُّ مَنْ كَانَتْ قَبْلَكِ؟

أَمْ أُحِبُّ مَنْ جَسَّدَكِ فِي الْكُتُبْ؟

أَمْ أُحِبُّ الْأُمَّةَ…

الَّتِي تَلْبَسُ كُلَّ صَبَاحٍ

وَجْهَكِ؟

لَمْ أَعُدْ أَرَاكِ…

كَجَسَدٍ يُشْبِهُ ضَوْءَ الْعَنْبَرِ

أَوْ صَوْتًا نَاعِمًا

فِي مِعْطَفِ الْبَيَاضْ

وَلَا أَنَا…

ذَاكَ الْمَرِيضُ الْمَصْلُوبُ عَلَى السَّرِيرِ

بَيْنَ طَنِينِ الْأَجْهِزَةِ

وَتَقَارِيرِ الْأَمَلِ الْمُؤَجَّل

نَحْنُ الْآنَ…

كَائِنَانِ مِنْ نُورْ

نُحَاوِرُ بَعْضَنَا

كَمَا يَتَحَاوَرُ نَجْمٌ مَعَ نَجْمٍ

فِي مَجَرَّةٍ نَائِيَة

أَنْفَاسِي تَتَهَجَّاكِ

كَأَنَّكِ قَصِيدَةٌ مِنْ سُورَةِ “مَرْيَمَ”

وَصَمْتُكِ…

يُتَرْجِمُ فِي دَاخِلِي

لُغَةً مِنْ لُغَاتِ الْمَلَائِكَة

حِينَ قُلْتُ:

“هَلْ تُؤْمِنِينَ بِالْحُبِّ؟”

لَمْ تُجِبي…

لَكِنَّ دَمْعَةً صَغِيرَةً

تَسَلَّلَتْ مِنْ عَيْنَيْكِ

وَأَجَابَتْنِي

وَحِينَ هَمَسْتِ:

“كُلُّنَا نَحْتَاجُ إِلَى مُعْجِزَةٍ”

أَدْرَكْتُ أَنَّكِ…

تَقْرَئِينَنِي مِنَ الدَّاخِلِ

كَمَا يُقْرَأُ الْقَلْبُ فِي لَحْظَةِ احْتِضَارْ

مَدَدْتُ يَدِي

لَا لِأَلْمِسَ يَدَكِ

بَلْ لِأُعِيدَ تَرْتِيبَ الْوُجُودِ

مِنْ حَوْلِ نَبْضِكِ

أَشْعُرُ بِأَنَّنَا خَرَجْنَا مِنْ أَجْسَادِنَا

وَتَرَكْنَاهَا هُنَاكَ…

تَنَامُ فِي الصَّمْتِ

وَتَنْتَظِرُ التَّقْرِيرَ الْأَخِير

أَمَّا نَحْنُ

فَقَدْ مَضَيْنَا مَعًا

نَحْمِلُ أَرْوَاحَنَا بَيْنَ أَكُفِّ النَّدَى

نَسِيرُ فَوْقَ الْوَجَعِ…

وَلَا نُرِيدُ الْعَوْدَةَ

حِينَ هَمَمْتُ بِمُغَادَرَةِ الْغُرْفَةِ

لَمْ تَكُنْ خُطُوَاتِي تَتَّجِهُ نَحْوَ الْبَابْ

بَلْ نَحْوَكِ…

كَأَنَّ الْفَصْلَ الْأَخِيرَ فِي الرِّوَايَةِ

يُعَادُ تَرْتِيبُهُ عَلَى إِيقَاعِ الْعُيُونْ

قُلْتُ لَكِ:

“حِينَ أُشْفَى…

سَأَبْحَثُ عَنْكِ فِي بِلَادِي

فِي زَحْمَةِ الْمُدُنِ

فِي مَقَاهِي الشُّعَرَاءِ

وَفِي لَهْفَةِ الْأُغْنِيَاتِ الْقَدِيمَةِ”

فَابْتَسَمْتِ

كَأَنَّكِ تَعْرِفِينَ أَنَّ الشِّفَاءَ وَحْدَهُ

لَا يَكْفِي كَيْ أُشْفَى مِنْكِ

وَهَمَسْتِ بِصَوْتٍ

يُشْبِهُ وَشْوَشَةَ الْمَطَرِ:

“بَلْ أَنَا…

سَأَبْحَثُ عَنْكَ

فِي كُلِّ قَصَائِدِكْ”

لَمْ أُجِبْ…

لَكِنَّ الْقَلْبَ أَجَابَ عَنِّي

بِنَبْضَةٍ لَمْ يَلْتَقِطْهَا جِهَازُ الرَّقَابَةِ

وَبِرَجْفَةِ وَعْيٍ أَخِيرَةٍ

كُتِبَتْ بِاسْمِكِ

وَحِينَ أُغْلِقَ الْبَابُ،

لَمْ يُغْلَقْ تَمَامًا

بَقِيَ مُوَارَبًا…

كَأَنَّهُ يَنْتَظِرُ بَيْتًا نَاقِصًا

أَوْ قَافِيَةً هَارِبَة

أَمَّا وَجْهُكِ

فَقَدْ ظَلَّ عَلَى الْجِدَارِ

كَقَصِيدَةٍ مَفْتُوحَةٍ

عَلَى سَطْرِهَا الْأَوَّلْ

لَا نِهَايَةَ لَكِ…

بَلْ بِدَايَةٌ أُخْرَى

فِي قَلْبِي

 

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن عمار شاهر قرنفل - الرحال

عمار شاهر قرنفل - الرحال

104

قصيدة

عمار شاهر قرنفل، كاتب وشاعر ومدوّن، يحمل دبلومًا في القانون الدولي من كلية الحقوق بجامعة حلب. وُلد في سلقين في 31 مارس 1972، فكان للحروف فيه ميلاد آخر. عاشق للشعر، رحّال بين الكلمات والمعاني،

المزيد عن عمار شاهر قرنفل - الرحال

أضف شرح او معلومة