إنّي هنا
يمرُّ يومي فوق يومي
وينامُ الدّهرُ عند التّلِّ في بستانِ جدّي
ثمّ يصحو باسمًا على تراتيلِ الصّباحِ في سريرِ طفلتي
فلا تسلْ يا وجعي متى وُلدتُ
إنّني مِنْ شهقةِ البدءِ أتيتْ
إنّي هنا
هابيلُ لمْ يغبْ ولمْ يمُتْ
فلا تفرحْ
ولا تقرأْ مزاميرَكَ فوق قبرِهِ يا كاهنَ السّيفِ
فلن تصغي إليكَ الأرضُ
لا
ولن تصفّقَ السّماءُ
لمْ ينمْ شوكٌ على تربتِهِ
هابيلُ
صوتُ صحوةٍ في شفةِ الرّبِّ يبيتْ
إنّي هنا
نُوحٌ أبي
بفُلْكِهِ يحملُني
فينحني الطّوفانُ عند خطوتي الأولى
ويرحلُ الغرابُ ينأى
وأبي في كفِّهِ زيتونةٌ خضراءُ يُلقيها الحَمامُ
فافرحي يا أرضُ
فوق صدرِكِ الحاني سينمو التّينُ والزّيتونُ
والكرْمُ ملاذُ المتعَبينَ
يا أبي
كأسُكَ كأسي
لكنّني أصحو
تغطّيني بثوبِها الحياةُ
يا أبي
لن أتعرّى
إنّني النّقاءَ ثوبًا ارتديتْ
إنّي هنا
بابلُ
أنشودةُ دهري
لمْ تزلْ أنفاسُها تملؤني عشقًا
فأجري نحوها متّكِئًا على عصا آشورَ
لا الرّياحُ
خنجرٌ بصدري نابتٌ
ولا الرّمالُ سهمُها يُرجعُني إلى احتضانِ البراري
دثّريني بالدّوالي يا حدائقَ النّجومِ
واسكبي خمرَ حمورابيْ على أسئلتي حتّى تُرى دماءُ جِلجامشَ في أوردتي
وأهتديْ إلى يدٍ ترقصُ فوقها سنابلٌ
ويشدو نهرُ زيتْ
إنّي هنا
مزمارُ عشتارَ يغنّي في فمي
أنغامُهُ ترفعُني إلى هضابِ اللّطفِ والمعنى
فأمشي فوقها
أسابقُ الرّيحَ
فمَن يسقطُني عن فَرَسِ الشّدوِ
ومَن يشدُّني مِنْ عنُقي إلى الرّمادِ؟
إنّني الأخطلُ
أمشي فوق أشلاءِ الرّدى
جبرانُ صوتي أبدًا
فاحملْ عصا لغوِكَ وارحلْ
يا سليلَ القُبْحِ عن ذاكرتي
أنا الجَمالُ
لستُ أنتهي
وأنتَ في وحولِ موتٍ ارتميتْ
إنّي هنا
حديقتي
مفتوحةُ الأبوابِ
لا حرّاسَ حول سورِها
ولا الجنودُ يلبسونَ الصّخرَ والنّارَ
ويسلبونَ نومَ ظبيةٍ يسكنُها الحنينُ للنّهارِ يأتي حاملًا ماءً وحلوى ونشيدًا راقصًا
حديقتي
طيورُها تحُطُّ فوق أذرعِ العبيدِ كي يزيّنَ الهواءُ يومَهم بلونِ الأغنياتِ والرّؤى
حديقتي
تُروى بها آلهةُ الضّوءِ
فتأتي لتَقيلَ تحت ظلِّ تينِها حتّى ترى في حُلْمِها انكسارَ موجٍ هائجٍ أرّقَها
حديقتي
خضراءُ لا يزورُها الجفافُ
في أرجائِها يبني الرّبيعُ خِصبَهُ
والحُبُّ عُشَّهُ
وفيها لا يجوعُ الذّئبُ
والأفعى تصفّقُ لطفلٍ يطعمُ الأسُودَ عشبًا
وحديقتي
يُطلُّ فوقها بطهرِهِ آدمُ رافضًا لأنْ يقولَ :
إنّي قد هربتُ منكَ ربّي واختفيتْ
إنّي هنا
نفْسي تضمُّ نفْسَها
تشدُّها إلى صفاءِ الزّنبقِ البهيِّ
قوّتي هنا
نعم هنا
في كلْمتي :
أبغضُ سيفَكَ الرّهيبَ
غيرَ أنّني أحبُّ صورتي فيكَ
ولن تجرَّني إلى زوايا القحطِ
فالصّحراءَ ليست خيمتي
خذْها
ومُتْ على رمالِها
وصِرْ غبارَها
يا أيّها المسجونُ بالأسْودِ
إنّكَ القتيلُ
والضّياءُ بهجةَ الأحياءِ يبقى
والنّجومُ
وابتسامةُ العناقيدِ ستبقى
وسيأتي الموجُ غاضبًا
يزيلُ عن شطآنِنا روْثَ الخيولِ
أيّها الوحشُ سأبقى
كتبي هنا
وتاريخي هنا
أصابعي هنا
وألواني هنا
ورنّتي الأولى هنا
إنّي هنا
وأينما كنتُ
فليْ فيكِ بلادي دفءُ بيتْ