أخذوا الأحبـارَ وأرضعوها لبيتِ الفم ِالكسيرِ,ولم يكتفوا حتى بالوا على تماثيلَ تذكاريةٍ, ونصَّبُوا لمدينةِ الليلِ،ذاتِ الأظافرِ المسلـــيةِ صاحبَ أفضل ِ كفن ٍ حاكمًا عليها.
ماتَ الزمنُ متوكئا, وظلَّ متوكئا حتى جئنا، وأكلنا مِنْسَأتَهُ, فخَرَّ,
وامرأة ٌألقمتْ ثدْييْهَا ِلشجرٍ لا يحبو, فنبتَ الدودُ في الملح ِ, ونحن أخذنَا بلحيةِ السأم ِ نجرُّه إلينا, وعكفنا على وخزٍ مسَّهُ المسخُ, وجعلنا كلمة َ الليل هي العليا، عندها بدأتِ المحرقة ُ…
لأنَّ النسيانَ سرقَ حقائبَ دبلوماسيينَ واطـَّـلعَ
لأن الأرضَ دارتْ بعكس ِعَواطفِهـِا،
فانسكبَ كلُّ شيءٍ على كلِّ شيءٍ.
لأن التداعِيَ يجوبُ الميادينَ بِملابسَ خرقاءَ.
لأن كلَّ شيءٍ بالَ على كلِّ شيءٍ.
لأن النهارَ بدأ تقاعدَهُ في مجرةِ عميان ٍ.
لأن الليلَ أسلمَ نفسَهُ للنعاس ِ
على مقهى البحرِ.
لأن الماءَ تجلط َ والدمَ تدفـَّقَ.
لأن حياة ً على إفريزِ المجرةِ،
تبكي وتهدد …
أحرقوني إذن
بالشجرِ الذي كانَنَي وكنتهُ
بالنسيم ِ الذي زارني وعاد سالمًا
بالعشبِ الذي عَلِقَ بأوتارِهِ قلبي
حينَ كنتُ ألتقط ُ الحُبَّ
وأنتظرُ المساءاتِ …
المسلخُ توسَّـلَ لِي قبلَ المحرقةِ،
توسَّـلَ لي
بأناملِهِ ذاتِ الشفـرةِ الرقيقةِ، بحداثـيـَّتِهِ،
بلذةِ الذبيح ِإذ يتركُ نظرة ًهائمة ً
تعـذبُ الذابحَ،
توسلَ لي بفلسفةِ الحزن ِالمُرَاق ِ،
عَبْرَ قرون ٍعدةٍ،
بتريليوناتِ الخوافي والقوادم ِ
التي استسلمتْ
فإنهُ مِنْ أجلِ حياةٍ أيًّا كانَ شكلُهَا
ـ إذ حينَ يرتبطُ الأمرُ بالذينَ يمجِّدُونَ الأزهارَ،
و الخداعَ.
بالذينَ ينحتونَ القيمَ المطلقة َ،
ليبولوا من خلفِهَا،
فإنَّ مَنْ يملكُ التبريرَ
يظلُّ أطولَ وقتٍ ممكن ٍ في اللعبةِ.
قال لي المذبحُ:
لا تَكُنْ منطقة ًمنزوعة َ السلاح
قال لي:
غَنِّ للجسورِ ثمَّ اقطعْهَا
قال لي:
إذا كنتَ مقنعًا أو مقتنعًا فأنتَ إ رهابيٌّ
قال لي:
أنْتَ بيئة ٌ صالحة ٌ للحفرِ
قال لي:
صافح ِ الآخرينَ بسكين ٍ
قال لي:
لا تؤجِّـلْ جرحَ النهارِ إلي الليل ِ
قال لي:
المصطلحُ يا عزيزي مُومِسٌ
قال لي:
استظل حين ينحسرُ الظلُّ
في العراءِ المطلقِ بِكْ.
مِنْ أيِّ فردوس ٍ، نَبَت ذلك الشيطانُ الذي يدخنُ، ويمضغُ العلكَة، ويتبولُ في النافورةِ دمًا. من أي جحيم ٍطُرِدَ ذلك الطيفُ الذي لا يدخنُ، وتمضغهُ العلكة، وتتبولُ النـــافورة ُ في فمِهِ وطنـًا. والنافورة ُ التي ارْتَدَّتْ حديقة ً، جاءَهَا غرباءُ يمسكونَ العزلة َ مِنْ ذيلِهَا، ويصطـادونَ ملائكة ً بِخيوطِ العناكبِ، ثم يتقامرونَ علـى قلوبٍ ملأى بالفراشاتِ، وفي النهايةِ ينهضُ سكيرٌ، ويطوي الحديقة َ، كأمسيةٍ فاتتْ، ثم
يمضي
لِينامَ
عندَ
قطارِ
النفق.
الأفقُ الذي أضيعُ فيهِ كإبرةٍ،
الأفقُ الذي أقصَى أمانِينَا أنْ نتحابَّ بدفئِهِ،
الأفقُ الذي تجرُّهُ اليابسة ُ خلفَهَا،
كذيلٍ لا نهائيٍّ
ذلكَ الأفقُ انتبهَ على يدٍ تـُقطـَعُ،
و سماءٍ تسيرُ بلا ملا بسِهَا،
وقمرٍ يُقتَادُ إلى سجونٍ سريةٍ،
حتى
يُدْلـِيَ
بأقوالِهِ
عن
طائرٍ هاربٍ…
اِنشغلوا إذنْ
بتخزين الصدمةِ في آبارٍ الذكرى،
انشغلوا بترميم ِ الشفقةِ أو رجمِها،
انشغلوا بصفع ِالزمن ِعلى قفاهُ،
بعدما تبينَ أنَّ ملابسَهُ الخرقاءَ،
ذاتَ الأكمام الطويلةِ،
وتهتهتهُ مجردُ كمين ٍ.
انشغلوا بمراسم ِ دفن ٍ بعد حداثيةٍ،
إذ تُوضَعُ القلوبُ
كلُّهَا
في مقبرةٍ،
والرئاتُ كلُّهَا في مقبرةٍ،
والمؤخراتُ كلُّهَا في مقبرةٍ.
ليتَ المحيط َ قطرة ٌ،
أحسوها،
وأضع لؤلؤَهَا بقلبي.
ليتهُ عشبة ٌ أحملُهَا تحتَ جلدِي.
وأصنعُ منها عُشِّيَ الأخير.
ليتهُ قمرٌ يغيب ُأكثرَ ممَّا يسطعُ،
ما كنـْتُ أحببـْتـُهُ.
ليتهُ يسحبُ شالـَهُ الأزرقَ
حيثُ يكمنونَ
فيغمرَ أبصارَهُمْ بالزبدِ.
لو ترحلونَ دُفعة ً واحدة ً
لا توسِّخونَ الذكرى،
يتمثـَّلُ لكم النسيانُ بشرًا سويـًّا،
لا تفزعونَ في ليلِ عثرةَ الريح ِ بـِأباطيلكم.
لو ترحلونَ دفعة ً واحدة ً
يهدأ عطبُ المهدئاتِ مِنْ صُدَاع ِ اليابسةِ،
لا تبولونَ على سَجَاجيدِ عفوٍ، ولا
تحطمُونَ مزهريَّاتِ بكاءٍ، ولا تنهضونَ
على دقائقَ تموتُ
بأزماتِ بوح ٍ بينما جثثٌ
مبهمة ٌ تـُلقـَى مِنْ نوافذِ الســـــهو.
لو ترحلونَ دفعة واحدة
لا تلتفتون إلى أيام ٍ تجلسُ مبتورة َ البصرِ،
ولا تقدِّمُونَ المَحَالِيلَ كعِلاج ٍ لليتم ِ،
بينما جذع ُ المُخِّ ميتٌ.
إذنْ سأشعلُ نفسِي
وأهبطُ في مجرَّة ٍ مِنَ القشِّ،
ليسَ ذلكَ قيـــامة ً لشيءٍ،
غيرَ أني أخبركم أنه
كمــا يكونُ بوسع ِإبرةٍ أنْ تخيطَ وتفقأ،
و بوسع دمـــعةٍ أنْ تفتتحَ نهرَ التشنجاتِ،
في مساءِ الفرح ِ،
وبوسع تمتمةٍ أنْ تركضَ بقلبِ عجوزٍ على زمن ٍ بجناحين ِ،
إيهاب خليفة (1972 – 2021)
شاعر مصري راحل، وُلد عام 1972 وحصل على شهادة في اللغة العربية من جامعة طنطا. عُرف بشاعريته المميزة وإنسانيته النبيلة.
في الثاني عشر من يونيو عام 2021، ...