(وأقبلتِ الخيل فصاحوا علينا من الشط: ارجعا لا
بأس عليكم، فسبحْتُ، وسبَحَ الغلامُ أخي، فالتفتُّ
إليه لأقوّي من قلبه، فلم يسمعْني واغترَّ بأمانهم
وخشيَ الغرق، فاستعجل الانقلابَ نحوهم، وقطعتُ
أنا الفرات، ثم قدّموا الصبيَّ أخي الذي صار إليهم
بالأمان فضربوا عنقَه ومضَوْا برأسه، وأنا أنظر إليه
وهو ابنُ ثلاثَ عشرةَ سنة، ومضيتُ إلى وجهي:
أحسبُ أنّي طائر وأنا ساعٍ على قدمي).
عبد الرحمن الداخل
(صقر قريش)
هَدأَتْ فوق وَجْهِيَ بينَ الفريسةِ والفارسِ الرِّماحُ
جَسَدي يَتدحْرَجُ والموتُ حُوذيُّهُ والرّياحُ
جُثَثٌ تتدَلّى ومَرْثيّةٌ،
وكأنَّ النّهارْ
حجَرٌ يثقبُ الحياةْ
وكأنّ النَهارْ
عَرَباتٌ من الدّمعِ،
غَيِّرْ رنينَكَ يا صوتُ،
أسمعُ صوتَ الفراتْ:
(قُرَيْش...
قافلةٌ تُبْحرُ صوبَ الهِنْدْ
تحملُ نارَ المجدْ.)
... والسَّماء على الجُرح مَمْدودَةٌ، والضِّفافْ
تتهامَسُ، تَمْتَدُّ:
بيني وبين الضفَّافْ
لُغةٌ، بيننا حِوارْ
حَضنَتْهُ الْكَراكِيُّ، طافَتْ به كالشّراعْ
بيننا،
(وافُراتاهُ، كنْ ليَ جسْرً، وكن لي قِناعْ)
وتَرَسَّبْتُ،
غَيِّرْ رَنِينَكَ يا صوتُ، أسمع صوتَ الفراتْ:
(قُريشْ...
لُؤْلْؤَةٌ تشعُّ من دِمشْقْ
يُخْبِئها الصّندلُ واللُّبَانْ
أرَقُّ ما رقَّ له لبنانْ
أجملُ ما حَدَّثَ عنه الشّْرْقْ...)
افتَحي يا بَراري مصاريعَ أبوابكِ الصَّدِئاتِ:
مَلكٌ والفضاءُ خراجي ومملكتي خُطواتي
في الشّقوقِ تَفّيأت
كنْتُ أجسُّ الدَقائقَ
أَمْخضُ ثَدْيَ القِفارْ
سرتُ أمضى من السّهْم أمْضى
عَقَرْتُ الحصَى والغُبارْ
كانتِ الأرضُ أضيقَ من ظلِّ رُمْحيَ مُتُّ
سمعتُ العقاربَ كيف تَصيىءُ، هديتُ القَطَا في المجاهلِ
مُتُّ، انْحنيتُ على الأرض أكثرَ صبرًا من الأرض مُتُّ
انْكَببْتُ على كاهل الريحِ
صَلّيتُ
وَشوَشْتُ حتّى الحجارْ
وقرأتُ النّجومَ، كتبتُ عناوينَها ومحوتُ
راسِمًا شَهْوتي خريطَهْ
وَدَمي حِبْرُها وأعماقيَ البَسيطَهْ.
لو أنّني أعرفُ كالشّاعر أن أغيّرَ الفصولْ
لَو أنّني أعرف أن أكلّمَ الأشياءْ،
سحرتُ قبرَ الفارسِ الطّفل على الفراتْ
قبر أخي في شاطىء الفرات
(ماتَ بلا غسْلٍ ولا قَبْرٍ ولا صَلاهْ
وقلتُ للأشياء والفُصولْ
مُدّي ليَ الفُراتْ
خَلَّيهِ ماءً دافقًا أخضَرَ كالزَّيتونْ
في دَميَ العاشقِ في تاريخيَ المسْنونْ.
لو أنّني أعرف كالشّاعر أن أُشاركَ النَّباتْ
أَعْراسَهُ،
قَنَّعْتُ هذا الشّجَرَ العاريَ بالأطفالْ،
لو أَنَّني أعرفُ كالشاعر أَنْ أُدَجِّنَ الغَرابَه
سَوّيْتُ كلّ حَجَرٍ سحابَهْ
تُمْطرُ فوق الشّامِ والفراتْ،
لو أَنّني أعرفُ كالشّاعر أن أغيّر الآجالْ
لو أَنّني أعرفُ أن أكونْ
نَبْوءَةً تُنْذِرُ أو علامَهْ،
لَصِحْتُ يا غمامَهْ
تكاثَفي وأَمْطري
باسْميَ فوقَ الشَامِ والفراتْ
باللهِ يا غمامَهْ...
علامَةٌ...
مَهْلَكَ يا حَنيني...
أَلصَّقْرُ في باديةِ العروق في مدائنِ السّريرَهْ
أَلصَّقْرُ كالهالةِ مرسومٌ على بوَّابةِ الجزيرهْ
والصّقْرُ في الحنينِ في الحيرة بين الحلْمِ والبُكاءْ
والصّقرُ في مَتاههِ، في يأسه الخلاَّقْ
يَبْني على الذُّروةِ في نهايةِ الأعماقْ
أندلسَ الأعماقْ
أندلسَ الطَّالع من دمشقْ
يحمل للغرب حصادَ الشَّرْقْ.
يُومىء الصَّقرُ للصّقورْ
مُتْعَبٌ، حَملْتهُ مَتاهاتُهُ، حملتهُ الصّخورْ
وجههُ يتقدّمُ والشَّمسُ حُوذيّهُ،
والفضاءْ
مَوْقِدٌ،
والرّياحُ عجوزٌ تقصُّ حكاياته،
والصّقورْ
مَوكبٌ يفتَحُ السّماءْ;
يرفَعُ كالعاشقِ في تفجّرٍ مَريدْ
في وَلَه الصَّبْوةِ والإِشراقْ
أندلسَ الأعماقْ
يرفَعُها لِلكون هذا الهيكلِ الجديدْ
كلُّ فَضَاءٍ باسْمهِ كتابٌ
وكلُّ ريحٍ باسْمهِ نَشيدْ .
من "كتاب التحولات والهجرة في أقاليم النهار والليل" 1965

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن أدونيس

avatar

أدونيس حساب موثق

سوريا

poet-Adonis@

15

قصيدة

320

متابعين

أدونيس علي أحمد سعيد إسبر شاعر سوري ولد في واحد يناير 1930م، وعرف باسمه المستعار أدونيس فلقد تبناه تيمناً بأسطورة أدونيس الفينيقية، وحفظ الكثير من قصائد القدامى،تزوج الأديبة خالدة سعيد ...

المزيد عن أدونيس

اقتراحات المتابعة

أضف شرح او معلومة