الديوان » مصر » علي محمود طه » الله والشاعر

سموتُ مستقبلًا وجهك الكريم فقالت لي الطبيعة: سِرْ في طريقك، ما أنبه شأنك! إنه رآك …
لامرتين
لا تفزعي يا أرضُ: لا تفرَقي
من شَبَحٍ تحت الدُّجى عابرِ
ما هوَ إلَّا آدميٌّ شقِي
سمَّوْهُ بين الناسِ بالشاعرِ
حنانَكِ الآن فلا تُنكرِي
سبيلَهُ في ليلكِ العابسِ
ولا تُضلِّيهِ، ولا تنْفرِي
من ذلك المستصرخ البائسِ
مُدِّي لعينيهِ الرِّحابَ الفِساحْ
ورقرقي الأضواءَ في جفنهِ
وأمسكي، يا أرضُ، عصْفَ الرياحْ
والرَّاعدَ المنصبَّ في أذنهِ
أتسمعينَ الآن في صوتِهِ
تَهَدُّجَ الأنَّاتِ من قلبه؟
وتقرأينَ الآنَ في صمتِهِ
تَمَرُّدَ الرُّوحِ على ربهِ؟
في وقفةِ الذَّاهلِ ألقى عصاهْ
مُوَلِّيَ الجبهةِ شطرَ الفضاءْ
كأنما يَرْقَى الدجى ناظراهْ
ليستَشِفَّا ما وراءَ السماءْ
يَسقُطُ ضوءُ البرقِ في لمحهِ
على جبينٍ باردٍ شاحِبِ
ويستثيرُ البردُ في لفحهِ
نارًا تَلظَّى من فمٍ ناضبِ
أنت لهُ، يا أرضُ، أمٌّ رءومْ
فأشْهدِي الكونَ على شقْوَتِهْ
وردِّدي شكواهُ بين النجومْ
فهوَ ابنُكِ الإنسانُ في حيرتهْ
ما هوَ إلَّا صوتُك المرسلُ
وروحُكِ المستعبَدُ المرهَقُ
قد آدَهُ الدهرُ بما يحملُ
فجاءَ عن آلامهِ ينطقُ؟
طغَى الأسى الدَّاوي على صوتهِ
يا للصَّدى من قلبهِ النَّاطقِ
مضى يبثُّ الدهرَ في خفْقهِ
شكايةَ الخلقِ إلى الخالقِ
لا تَعْدُني يا ربِّ في محنتي
ما أنا إلَّا آدميٌّ شقِي
طَرَدْتَني بالأمسِ من جنتي
فاغفرْ لهذا الغاضبِ المحنَقِ
حنانكَ اللهمَّ، لا تغضبِ
أنتَ الجميلُ الصفحِ، جمُّ الحنانْ
ما كنتُ في شكوايَ بالمذنبِ
ومنكَ، يا ربِّ، أخذتُ الأمانْ
ما أنا بالزاري ولا الحاقدِ
لكنني الشَّاكي شقاءَ البشَرْ
أفنيتُ عمري في الأسَى الخالدِ
فجئتُ أستوحيكَ لطفَ القدرْ
تمرَّدتْ روحي على هيكلي
وهيكلُ الجسمِ كما تعلمُ
ذاك الضعيفُ الرأيِ لم يفعلِ
إلَّا بما يوحي إليه الدَّمُ!
يَعْرُقُ حدُّ السيفِ من لحمهِ
ويحطمُ الصَّفوانُ بنيانَهُ
وينخرُ الجرثومُ في عظمهِ
ومنهُ يُنْمي القبرُ ديدانَهُ!
ما هوَ إلَّا كومةٌ من هباءْ
تمحقهُ اللمسةُ من غضبتِكْ
فكيف يثني الروحُ عما تَشاءْ؟
وكيف يقوى؟ وهي من قدرتكْ؟
روحُكَ في روحي تبثُّ الحياهْ
نزلتُ دنيايَ على فجرِها
فإنْ جفاها ذاتَ يومٍ سناهْ
لاذتْ بليلِ الموتِ في قبرِها
وَمِثلَما قدَّرْتَ صوَّرْتَها
فروحك الصوتُ وروحي الصدَى
طبيعةٌ في الخلْق ركَّبتها
وما أرى لي في بِناها يدا!
لكنَّما روحُكَ من جوهرِ
صافٍ وروحي ما صَفتْ جوهرا
أوْ لَا؟ فما للخيرِ لمْ يُثمرِ
فيها؟ وما للشرِّ قد أثمرا!!
تقولُ روحي: إنَّها مُلهَمهْ
فهيَ لما قَدَّرْتَه مُتْبِعهْ
مقودةٌ، في سيرها، مُرْغَمهْ
وإنْ تراءَتْ حُرَّةً طيِّعهْ
قيَّدتَها بالجسم في عالمِ
تَضجُّ بالشهوة فيهِ الجسومْ
كلاهما في حبِّه الآثمِ
لم يصْحُ من سُكراهُ وهو الملومْ
تُبْدِي بهِ الأجسامُ سحرَ الحياهْ
في معرضِ يجلو غريبَ الفنونْ
نواعسَ الأجفانِ حُوَّ الشفاهْ
شديدةَ الإغراءِ شتَّى الفتونْ!
ولم أكن أولَ مُغرًى بما
أغرتْ بهِ حواءَ أو آدما
إرثٌ تمشَّى في دمي منهما
ميراثه يَنتظم العالما
فأنتَ قدَّرتَ عليَّ الشقاءْ
من حيثُ قدَّرتَ عليَّ النعيمْ
وما أرى!! هل في غدٍ لي ثواءْ
بالخلدِ؟ أمْ مثوايَ نارُ الجحيمْ؟
ما أثِمَتْ روحي ولا أجرمتْ
ولا طغى جسمي ولا استهترا
عناصرُ الروح بما أُلهمَتْ
أوحت إلى الجسمِ فما قصَّرا
كلاهما لم يَعْدُ تصويرَهُ
ما كان إلَّا مِثلما كُوِّنا
كم حاولا بالأمسِ تغييرَهُ
فاستكبرَ الطبعُ، وما أذعنا
أمنذِري أنت بيومِ الحسابْ؟
ولائمي أنتَ على ما جرى؟
رُحماك: ما يرضيكَ هذا العذابْ
لطيِّعٍ لم يَعْصِ ما قُدِّرَا!!
ما كنتُ إلا مثلما رُكِّبَتْ
غرائزي، ما شئتَ لا ما أشاءْ
فلتجزِها اليوم بما قدَّمتْ
وإن تكنْ مما جَنتهُ براءْ!
وفيمَ تُجزَى، وهيَ لم تأثمِ؟
ألستَ أنت الصائغَ الطابعا؟
ألمْ تَسِمْها قبلُ بالميسمِ؟
ألمْ تصُغْ قالبها الرائعا؟؟
ألم تصُغْها عنصرًا عنصرًا؟
من أين؟ ما علمي، وأنت العليمْ!
جَبَلتها يومَ جبلتَ الثرى
من عالم الذرِّ ودنيا السِّديمْ
الخيرُ والشرُّ بها توأمانْ
والحبُّ والشهوةُ في طبعِها
حوَّاءُ والشيطانُ لا يبرحانْ
يُساقِطان السِّحرَ في سمعِها!
تَشكَّكتْ نفسي بما تنتهي
إليهِ دنياها وماذا يكونْ!
مضتْ فما آبتْ بما تشتهي
من حيرةٍ الفكر وهجس الظنونْ!
رأتْ أسارى في قيودٍ ثقالْ
بين يدَيْ ذي مِرَّةٍ يبسمونْ
يسوقهم في فَلَواتِ الليالْ
في بطشِ جَبَّارين لا يرحمونْ
إنْ ضجَّ في الأغلالِ منهم طلِيحْ
أخرسهُ السوطُ الذي يُرهفُ
وإنْ هوى للأرضِ منهمْ جريحْ
أنهضهُ في قيدِه يَرْسُفُ!
يا ويحهم ما عرفوا مَوئِلَا
من قسوةِ الدهر وجورِ القضاءْ
يا أرضُ، ما كنتِ لنا منزلَا
ما أنتِ إلا موبقُ الأبرياءْ!!
أفي سبيلِ العيش هذا الصراعْ؟
أم في سبيلِ الخلدِ والآخره؟
وهؤلاءِ البائسونَ الجياعْ
تطحنهم تلك الرَّحى الدائرهْ؟؟
ما ذنبُ هذا العالمِ الثَّائرِ؟
إنْ حاولَ الإفلاتَ من آسرِهْ؟
ما كانَ في ميلادِهِ الغَابرِ
أسعدَ حالًا منهُ في حاضرِهْ!!
ما كانَ لوْ لمْ تَنْزُ آلامُهُ
بالماجنِ الرُّوحِ ولا الهائمِ
ولو جَرتْ بالصفوِ أيامهُ
ما كانَ بالزَّاري ولا الناقمِ
رأى بعينيهِ المصيرَ الرهيبْ
وكيف غالَ الناسَ من قبْلهِ
وكلَّ يومٍ للمنايا عصيبْ
يسوقُهمْ للموتِ من حولهِ!
فحقَّرَ الدُّنيا وأزرى بها
وقالَ: ما لي أنكرُ الواقعا؟
فَلْتَسْعَدِ النفسُ بأنخابها
من قَبْلِ أن تلقى الغدَ الرائعا!
أيصبحُ الإنسانُ هذا الرميمْ؟
والجيفةَ الملقاةَ نهبَ الترابْ؟
أيستحيلُ الكونُ هذا الهشيم
والظلمةَ الجاثمَ فيها الخرابْ؟
لمنْ إذًا تبدعُ تلك العقولْ؟
أفي الرَّدى تدرك ما فاتَها؟؟
أم في غدٍ تثوي بتلك الطلولْ
ويسحقُ الدهرُ يواقيتَها؟؟
وا أسفا للعَالَمِ البائدِ
ليس لَه مما يرى مهربُ
على رنينِ المنجَلِ الحاصدِ
مضى يُغنِّي، وهو لا يطربُ!!
فَدَعهُ ينسى بعض ما حُمِّلا
من نكد الدُّنيا وضنكِ الحياةْ
وأوْلِهِ العطفَ الذي أمَّلا
فإنهُ أوْلى بعطفِ الإلهْ!
ما هيَ إلَّا لحظاتٌ قصارْ
تَمُرُّ مِثْلَ الومْضِ في عينهِ
فإن مضى الليلُ وجاءَ النهارْ
عاودَهُ الخالدُ من حزنهِ!
وما أتى الغَيَّ ليعصي الإلهْ
يومًا، ولا كانَ بهِ مُغرَمَا
لكنْ لينسَى شقواتِ الحياهْ
وسرَّها المستغلقَ المبهما!
يا للشقيِّ القلبِ كم سامهُ
توهُّم النعمةِ ما لا يُطيقْ
يُريدُ أنْ يُقنعَ أوهامهُ
بأنَّه ذاك الخليُّ الطليقْ
هأنذا أرفعُ آلامَهُ
إلى سماءِ المنقذِ الأعظمِ
أنا الذي تُرسلُ أنغامَهُ
قيثارةُ القلبِ، ونايُ الفمِ
من عبراتي صُغتُ هذا المقالْ
ومن لهيب الروحِ هذا القَلَمْ
ملأتُ منهُ صفحاتِ الليالْ
فَضُمِّنَتْ كلَّ معاني الألمْ
أنا الذي قدَّسْتَ أحزَانَهُ
الشَّاعرُ الباكي شقاءَ البشرْ
فَجَّرْتَ بالرحمةِ ألحانَهُ
فاملأْ بها، يا ربِّ، قلبَ القدرْ!
ما الشاعرُ الفنَّانُ في كونهِ
إلَّا يدَ الرحمة من ربِّهِ
مُعَزِّيَ العالمِ في حزنهِ
وحاملَ الآلامِ عن قلبهِ
عزاؤهُ شعرٌ بهِ أهزِجُ
في نغمٍ مستعذَب ساحرِ
ما يحزنُ العالم أو يبهجُ
إلَّا على قيثارةِ الشاعرِ
يا ربِّ، ما أشقيتني في الوجودْ
إلَّا بقلبي: ليتَهُ لم يكنْ
في المثل الأعلى وحبِّ الخلودْ
حمَّلتهُ العبءَ الذي لم يَهُنْ
خلقتهُ قلبًا رقيقَ الشغافْ
يهيمُ بالنورِ ويهوى الجمالْ
حَلَتْ له النجوى ولذَّ الطوافْ
بعالم الحسنِ ودنيا الخيالْ
بعثتهُ طيرًا خفوقَ الجناحْ
على جِنانٍ ذات ظلٍّ وماءْ
أطلقتهُ فيها قُبَيْلَ الصباحْ
وقلتَ: غنِّ الأرضَ لحنَ السماءْ
فهامَ في آفاقها الواسِعهْ
النُّورُ يهفو حولَهُ والنَّدَى
مُصفِّقًا للضحوةِ الساطعةْ
ومُنشِدًا ما شاءَ أن يُنشدَا
إنْ جاءَ صيفٌ أو تجلَّى ربيعْ
حيَّاهُ منهُ عبقريُّ الغِناءْ
وكم خريفٍ في نشيدٍ بديعْ
تظلُّ ترويه ليالي الشتاءْ
قيثارةٌ تصدُر في فنِّها
عن عالم السِّحر ودنيا الخفاءْ
على الصَّدَى الحائِرِ من لحنها
يستيقظُ الفجرُ ويغفو المساءْ
مَشتْ على الأمواجِ أنغامُها
والأرضُ قيدَ النشوة المسكِره
كأنَّما ترقُص أحلامُها
في ليلةٍ شرقيةٍ مُقمره!
من قلبهِ أسلَسْتَ أوتارَها
فقلبُهُ يخفقُ في كفِّهِ
يشدو فتُملي النفسُ أسرارَها
عليهِ، فهيَ اللحنُ من عزفِه
ذاتَ صباحٍ طار لا يُمْهِلُ
والأرضُ سكرى من عبيرِ الزهورْ
على حصاها رنَّمَ الجدولُ
وفي روابيها تُغنِّي الطيورْ
ما كان يدري قبلَ أن ينظرا
ما خَبَّأتْهُ النظرةُ العاجلةْ
ما أبدعَ الحلم الذي صوَّرا
لوْ لَمْ تَشُبْهُ اليقْظةُ القاتلهْ!
مرَّ بنهرٍ دافقٍ سلسبيلْ
تهفو القمارَى حوله شاديَهْ
في ضفتيهِ باسقاتُ النخيلْ
ترعى الشياهُ تحتها ثاغيهْ
فهاجت النظرةُ مما رأى
في قلبهِ السحرَ وفي عينهِ
الكونُ يبدو وادعًا هانئًا
كأنهُ الفردوسُ في أمنهِ
فظلَّ في التفكير مستغرقَا
من فتنة الدنيا ومن سحرِها
ما كان إلَّا ريثما حدَّقا
حتى جَلَتْ دنياهُ عن سرِّها
رأى بعينيهِ الذي لم يرَهْ
الذئبَ، والشاةَ، وحربَ البقاءْ
ما عَرَفَ القتلَ ولا أبصرَهْ
ولا رأى من قبلُ لونَ الدِّمَاءْ!
ما هي إلا صرخاتُ الفزعْ
وصيحةُ المقتولِ والقاتلِ
قد انقضى الأمرُ كأَنْ لمْ يقعْ
وضاع صوتُ الحقِّ في الباطلِ
وبعدَ ساعاتٍ يُوَلِّي النهارْ
ويُقبلُ الليلُ، وما يعلمُ!!
سيلبثُ السرُّ وراءَ الستارْ
ويختفي الشلوُ ويُمحى الدمُ!!
فرُوِّعَ الشاعرُ مما رآهُ
وهامَ في الأرض على وجههِ
أين ترى، يا أرضُ، يُلقي عصاهُ؟
وأيُّ وادٍ ضلِّ في تيههِ؟
حتى إذا شارفَ ظلَّ الشجرْ
في روضةٍ غناءَ ريَّا الأديمْ
قد ضَحِكت للنور فيها الزَّهَرْ
وصفَّقَتْ أوراقُها للنسيم
اختار في الظلِّ له مقعدا
في ربوةٍ فاتنةٍ ساحرَهْ
أذاب فيها الشفقُ العسجدَا
وناسمتها النفحةُ العاطرهْ
بينا يُمَلِّي العيْنَ من سحرها
إذ أبصر الصِّلَ بها مُطرقَا
قد انتحى الأطيارَ في وكرِها
فسامَها من نابه موبقَا
هل سمِعَتْ أذناك قصفَ الرعودْ
في صخَب البحر وعصف الرياحْ؟
هل أبصرتْ عيناك ركضَ الجنودْ
في فزعِ الموتِ وهولِ الكفاحْ
إن كنت لم تبصرْ ولم تسمعِ
فَقِفْ إلى ميدانها الأعظمِ
ما بين ميلادكَ والمصرعِ
ما بين نابيْ ذلك الأرقمِ!!
جريمةُ الغدرِ وسفكِ الدمِ
جريمةٌ لم يخلُ منها مكانْ
يا لُجةً كلٌّ إليها ظمي
قد جاز طوفانُك شمَّ القنانْ!
من علَّم الوحشَ الأذى والقتالْ؟
من بثَّ فيهِ الشرَّ أو ألهمهْ؟
من علَّم الثعبانَ هذا الختالْ؟
والحيوانَ الغدرَ من علَّمهْ؟
يا أرضُ، هذا الوحيُ من عالمِكْ
الماءُ والطينُ به يشهدانْ
جنيتِ، يا أرضُ، على آدمِكْ
إذ سمتهِ بالأمسِ هجرَ الجنانْ!
يا ضلَّة الشاعر، أين النجاةْ
وأين، أينَ المنزلُ الآمنُ؟
أكلَّ وادٍ طرقته خُطاه
طالعهُ منهُ الرَّدى الكامنُ؟
حتى إذا ضاقتْ عليهِ السُّبُلْ
وعزَّ في الأرض عليهِ المقامْ
أوى إلى كهفٍ بسفح الجبلْ
عساهُ يقضي ليله في سلامْ
ما كان إلا حُلُمًا كاذبَا
أفاقَ منه مستطيرَ الجَنانْ
البحرُ يُرغي تحتهُ صاخبَا
والشهبُ نارٌ، والدياجي دُخَانْ
الأرضُ من أقطارها راجفَةْ
كأنما طافَ عليها المنونْ
تضجُّ في أرجائها العاصفَةْ
كأنَّمَا الناسُ بها يُحشرونْ!
ثم استقرَّ العالمُ الثائرُ
وأقبلَ النورُ وولَّى الظلامْ
وَا عجبًا مما يرى الشاعرُ
كأنما أمسى بوادي الحِمامْ!
بدت لهُ الأرضُ كقبرٍ عفا
إلَّا بقايا رمَّة أو حجرْ
قد أصبحَ القاعُ بها صَفْصَفَا
فما عليها من حياةٍ أثرْ
مَرَرتُ بالبُلدانِ مُستعبرَا
أبكي الحضاراتِ وأرثي الفنونْ
أنقاضُها تملأ وجه الثرى
وكُنَّ بالأمس مثارَ الفتونْ!
أتى على اليابسِ والأخضرِ
الموجُ، والنوءُ، سيلُ الحُمَمْ
يا رحمةَ اللهِ اهبطي وانظري
ما حصدَ الموتُ ودكَّ العَدَمْ!!
أيستحقُّ الناسُ هذا العقابْ؟
أم حانتِ الساعةُ من نقمتكْ؟
ما احتملوا، يا ربِّ، هذا العذابْ
إلا رجاءَ الغوثِ من رحمتكْ؟
أما ترى منفرجاتِ الشفاهْ
عن آخر الصيحات من رعبها؟
ما زال فيها من معاني الحياة
إيماءَةُ الشكوى إلى ربها!
وهذه الأعينُ نهبَ العفاءْ
في رقدةِ الموت كأنْ لم تَنَمْ
مُحدِّقاتٍ في نواحي السماءْ
تُشهدها هذا الأسى والألمْ!
وهذه الأيدي تحوطُ الصدورْ
كأنها في مَوقفٍ للصَّلاهْ
لم تَنْسَ في نزْع الحياةِ الغرورْ
ضراعةً ترسُمها للإِلهْ!
ما عَرفوا في صَعقاتِ الردى
إلَّاكَ من غوثٍ ومن منجدِ
ولا سرى في الأرض منهم صدى
إلا ودوَّى باسمِكَ الأمجدِ!
أعبرةً تذكرها كلَّ حينْ
للعالم الذَّاكرِ إمَّا نَسِي؟
أمْ ضرباتٍ قاسياتٍ تُلينْ
بهنَّ قلبَ الفظِّ والأشرسِ؟
أم موجةُ الطهرِ التي تَغْسلُ
مآثمَ الكونِ وتمحو أذاهْ
يا ربِّ ضِقنا بالذي نحملُ
فحسبُنا آلامُنا في الحياهْ!!
ألمْ تُطهِّرْ ذلك العالما
من كل عاصٍ أو غوِيٍّ جموحْ؟
ما غادر الموجُ به قائمَا
يوم اجتوى الأعلامَ طوفانُ نوحْ!
إذًا فما للناس ضلُّوا الهدى؟
وأخطئوا اليوم سبيلَ الرشادْ؟
لعلَّ نوحًا أخطأ المقصدا
فأغرقَ الخير ونجَّى الفسادْ!!
يا ليتَهُ لمَّا دعا بابنهِ
وحالتِ الأمواجُ أن يُسْمَعا
لجَّ عليهِ القلبُ في حزنِهِ
فلم يَرَ الجوديَّ لمَّا دعا!!
يا أرضُ، ولَّى عهدُ نوحٍ وزالْ
فمَن لكِ اليومَ بطوفانِهِ؟
مسكينةً تطوين بحرَ الليالْ
قد عزَّكِ المرسى بشطآنِهِ!
إلامَ تطوين عُبابَ السِّنينْ
شوقًا إلى فردوسكِ الضائعِ؟
غُرِّرْتِ، يا أرضُ بما تحلُمين
فاستيقظي من حُلمِكِ الخادعِ!!
وابقَي كما أنتِ على موجهِ
تُمَزِّقُ الأنواءُ منك الشراعْ
يقذفُكِ التيار في لُجِّهِ
عشواءَ لا يهديك فيهِ شعاعْ
سلي القداساتِ وأربابَها
ضراعةً تُصغي إليها السماءْ
أو فاطرقي بالبثِّ أبوابَها
لعلَّها ترفعُ عنكِ الشقاءْ!
يا أيها الغادونَ والرائحونْ
في شعبِ الأرضِ وليل الهمومْ
تُمسون أشتاتًا كما تصبحونْ
والشمس حيرى فوقكم والنجومْ!
مُدُّوا لها الأيدي وولُّوا الجباهْ
وأرسلوها صيحةً واحدهْ
قولوا لها: يا من شهدتِ الحياهْ
من أينَ تلك النظرةُ الجامدهْ؟
من أينَ تلك النظرةُ الهادئهْ؟
والقسماتُ المشرقاتُ الجبينْ؟
هل أنتِ من آلامنا هازئِهْ؟
أم أنتِ، يا أعينُ لا تُبصرينْ؟!
أم هكَذا أوحى إليكِ القضاءْ
فما عرفتِ الحزنَ والأدمعَا؟
يا أيُّها الناس اضرعوا للسماءْ
قد آن أن تُصغي وأن تشْفعا!
هاتوا الأزاهيرَ وهاتوا الغصونْ
وكلَّ ما يحلو وما يجملُ
قد آن أن تُفْضوا بما تشعرونْ
فأشعلوا النارَ بها أشْعِلوا!!
أو فاملئوا من زهرها اليانعِ
مجامرَ النارِ وألقوا البخورْ
وصعِّدوا في ذِلَّةِ الضارعِ
أنفاسكم نشْوَى بتلك العطورْ
أحببْ بها من أنَّةٍ عاطرهْ
في مسمعِ الأفلاكِ إذ تصعدُ
أصداؤُها الرفَّافةُ الحائرَهْ
في وجهها الآفاقُ لا توصدُ!!
يا أرضُ ناديتُ فلم تسمعي
أنكرت صوتي وهو من قلبكِ
لا تفرَقي مني، ولا تَفزعي
من شاعرٍ شاكٍ إلى ربِّكِ
أيَّتُها المحزونةُ الباكيَهْ
لا تيأسي من رحمةِ المُنْقِذِ
لعلَّ من آلامكِ الطاغيَهْ
إذا دعوتِ الله من منفَذِ!
فابتهلي للهِ، واستغفِرِي
وكفِّري عنكِ بنار الألمْ
وقدِّمي التوبةَ، واستمطري
بين يَدَيْه عبراتِ الندمْ!!

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن علي محمود طه

avatar

علي محمود طه حساب موثق

مصر

poet-ali-mahmoud-taha@

103

قصيدة

467

متابعين

شاعر مصري ينتمي إلى المدرسة الرومانسية،ولد علي محمود طه المهندس عام 1901م بمدينة المنصورة، وقضى معظم شبابه فيها. تعلم في الكُتاب وحفظ بعضا من سور القرآن الكريم، ثم انتقل إلى المدرسة الابتدائية، ...

المزيد عن علي محمود طه

اقتراحات المتابعة

أضف شرح او معلومة