الديوان » مصر » علي محمود طه » كأس الخيام

هاتفُ الفجرِ الذي راعَ النجومْ
وأطارَ الليلَ عن آفاقِهَا
لم يَزَلْ يُغري بنا بنتَ الكرومْ
ويُثيرُ الوجدَ في عشاقِهَا
**
صَيْدَحٌ جُنَّ غرامًا بالسَّحَرْ
أنطقتْه لهفةُ الرُّوحِ المشوقْ
مَوثِقُ القلب، وميعادُ النَّظَرْ
مهرجانُ النُّور في عُرس الشروقْ
**
فَرَحُ الجَنَّةِ في ألحانِهِ
وصداهُ في السَّحابِ العابِرِ
أرسَلَ السِّحْرَ على ألوانِهِ
من فمٍ شادٍ، وقلبٍ شاعرِ
**
يَا لَهُ صوتًا من الماضي البعيدْ
رائعَ الإيقاع فتَّان النَّغَمْ
جدَّدَ الأشواقَ باللحن الجديدْ
وهو كالدنيا عَريقٌ في القِدَمْ
**
كم عيونٍ نفضَتْ أحلامَها
حين نادى، غيرَ حُلْمٍ واحدِ
سلسلتْ فيه المُنى أنغامَها
وهي تشدو بالرحيقِ الخالدِ
**
كلَّما لَأْلَأَ في الشرقِ السَّنَا
دقَّتِ البابَ الأكُفُّ الناحلَه
أيُّها الخَمَّارُ! قم وافتحْ لَنَا
واسقِنا، قبل رحيلِ القافِلَه
**
خَمْرَةُ العشاقِ لا زالتْ، وَلَا
جَفَّ من ينبوعها نهرُ الحياهْ
نضبتْ، في قَدَحِ العمرِ، الطِّلا
وهيَ في الأرواح تستهوي الشِّفَاهْ!
**
كم شموسٍ عَبَرَتْ هذا الفضاءْ
وألوفٍ من بدورٍ ونجومْ
والثرى بين ربيعٍ وشتاءْ
ضاحك النُّوَّارِ وهَّاجُ الكرومْ
**
كلُّ عنقودٍ دموعٌ جَمَدَتْ
وقلوبٌ فَنِيَتْ فيها شعاعَا
ما احتواهَا الفجرُ إلَّا اتَّقَدَتْ
جمرةً تذكو حنينًا وَالْتِيَاعَا
**
لو أصابَتْ ريشتَيْهَا وثَبتْ
بجناحين من الشَّوق القديمْ
فاعذرِ الكأسَ إذا ما اضطربتْ
حَبَبًا يَخْفِقُ في كفِّ النديمْ
**
أيُّهَا الخالدُ في الدنيا غرامَا
أينَ نيْسابورُ، والروضُ الأنيقْ؟
أينَ معشوقكَ إبريقًا وجامَا؟
هلْ حَطَمْتَ الكأسَ؟ أم جفَّ الرحيقْ؟
**
هذه الكرمَةُ والوادي الظليلْ
مثلما كانَا، وهذا البلبلُ
حاضرٌ أشْبَهُ بالماضي الجميلْ
لو يُغنِّيهِ المغنِّي الأولُ
**
اليدُ البيضاءُ في كلِّ الغصونْ
زهرةٌ تَنْدَى، ونَوْرٌ يُشرقُ
والثرى من نَفَسِ الرُّوحِ الحنونْ
مهجةٌ تهفو، وقلبٌ يخفقُ
**
كم تشهَّيتَ الحبيبَ المُحسِنا
لو سقي مَثواكَ بالكأسِ الصبيبْ
وتمنَّيتَ، وما أحلى المُنى
خطواتٍ منه، والمثوى قريبْ
**
أتُرَى أعطيتَه سِرَّ الخلودْ؟
أم حبوتَ الحسنَ سلطانًا يدومْ
عجبًا، تخطئُ أسرارَ الوجودْ
أيُّها الحاسبُ أعمارَ النجومْ!
**
شَفَةُ الكأْسِ التي أنطقتَها
لم تَدَعْ من منطقِ الدنيا جوابا
حُجُبٌ عن ناظرِيْ مزَّقْتَها
فرأيتُ العيشَ برقًا وسرابَا
**
ولمستُ الخافقَ الحيَّ المنَى
طينةً تبكي بكفِّ الجابلِ
تشتهي الرَّشْفَةَ مما عَلَّنَا
وهي ملأى تحت ثغر الناهلِ
**
نَسِيَ الأنخابَ من تَهوى وأمسى
مثلما أمسيتَ يستسقي الغمامَا
واشتكتْ رقَّتهُ في الأرض يُبْسَا
وغدا الإبريقُ والكأسُ حطامَا
**
لا، فما زالا، ولا زال الحبيبْ
أيها المفعِمُ بالحبِّ الوجودَا
إنَّ من غَنَّيْتَ بالأمس القريبْ
منَحَتْهُ ربَّةُ الشِّعْرِ الخُلودَا
**
مَرَّ بي طيفُكما ذاتَ مساءْ
وأنا ما بينَ أحلامي وكأسِي
استبدَّتْ بيَ أطيافُ الخفاءْ
وتغرَّبتُ عن الدنيا بنفسي
**
صِحْتُ بالليلِ إلى أَنْ أشفَقَا
فَلْيَقِفْ نجمُكَ … وَلْيَنْأَ السَّحَرْ
جَدَّدَ العشاقُ فيكَ الملتقى
وَحَلَا الهمسُ على ضوء القمَرْ
**
فَادخلَا بين ضياءٍ وغمامْ
حانةَ الأقدار والليلِ القديمْ
مجلسًا يهفو به رُوحُ الغرامْ
كلُّ نجمٍ فيه ساقٍ ونديمْ
**
وانهلا من سَلْسَلِ النُّورِ المذابْ؟
خمرةً ليس لها من عاصرِ
قَنَعَ الصوفيُّ منها بالحَبابْ
وهيَ تنهلُّ بكأْسِ الشاعرِ
**
فاروِ يا شاعرُ عن إشراقِهَا
إنَّمَا كأسُكَ نورٌ وصفاءْ
كيفَ طالعتَ على آفاقِهَا
روعةَ الغيبِ وأسرارَ السماءْ؟
**
كيفَ أبصرتَ الجمالَ المشرِقَا
بَصَرَ الفانينَ في حُبِّ الإلهء
وفتحتَ الأبدَ المُستغلِقَا
عن ضمير الكونِ أو قلبِ الحياةْ؟
**
أبروحانية الشَّرقِ العريقْ
أمْ ببُوهِيميَّةِ الفنِّ الطَّليقْ
سَبَحَتْ رُوحُكُ في الكون السحيقْ
حيث لا يَسْمَعُ طَافٍ لغريقْ؟
**
حيثُ أبصرتَ الذي لم تُبْصِرِ
أعيُنٌ مرَّتْ بهذا العالَمِ
ذاك سرُّ الشاعِرِ المُستهترِ
وَفُتون الفيلسوفِ الْعَالِمِ
**
ذاك سرُّ النَّغْم المسترسل
والصفاءِ السلسلِ المطَّردِ
رُوحُ شادٍ فَنِيَتْ في الأزَلِ
وتحدَّتْ شهوةَ المنتقدِ
**
صَرَخَتْ آلامُهُ في كُوبِهِ
فهوى يثأرُ من آلامِهِ
إنما البعثُ الذي تشْدُو بِهِ
يقظةُ المفجوعِ في أحلامِهِ!
**
إنَّمَا البعثُ المُرجَّى للوَرَى
غايةُ الحيِّ التي لا تُحْمَدُ
إنما تَبْعَثُ في هذَا الثَّرى
بعضَ ما يُقْطَفُ أو ما يُحْصَدُ
**
حَسْبُهَا تعزيةً أنَّا سَنَحْيَا
في غَدٍ، مثلَ حياةِ الزَّهَرِ
وَسَنَطْوِي الأَبَدَ المجهولَ طَيَّا
جُدَدَ الأطْيَاف شَتَّى الصُّوَرِ
**
حسبُها تعزية أن نَحْلُما
بأناشيدِ الصَّباحِ المنتظرْ
ونشقُّ الأرضَ عن وجهِ السَّمَا
حيث نورُ الشمسِ أو ضوءُ القمرْ
**
ربما جَدَّدَ أو هاجَ لنَا
نبأً أو قِصةً منْ حُبِّنَا
نَوْحُ ورقاءَ أرنَّتْ حَوْلنا
أو شَجَى قُبَّرةٍ مَرَّتْ بنا
**
أو خُطَى إِلْفَيْنِ في فجرِ الصِّبا
أتْرَعا كأسَيهما مِنْ ذوبِهِ
أو صدَى رَاعٍ على تلكَ الرُّبَى
صَبَّ في النَّايِ أغاني حُبِّهِ
**
حُلُمٌ مَثَّلْتَه في خاطري
فعشقتُ الخُلدَ في هذا الرُّواءْ
أنكرُوهُ فَحَكَوا عن شاعرِ
جُنَّ بالخمرِ وأغوتْهُ النساءْ
**
ولقد قالوا: شذوذٌ مُغْرِبُ
وإباحيَّةُ لاهٍ لا يُفيقْ
آهِ لو يدْرونَ ما يضطربُ
بيْن جنَبيكَ من الحزنِ العميقُ
**
أَوَلَا يَغْدو الخليعَ الماجِنا
من رأي عُقْبَى الصباحِ الباسمِ؟
ورأَى الحيَّ جمادًا ساكنَا
بعد ذيَّاكَ الحَراكِ الدائمِ؟
**
أَوَلا يُغرِبُ في نَشْوَتِهِ
شاربُ الغُصَّةِ في اليومِ الأخيرْ؟
أَوَلَا يُمعن في شهوتِهِ
مُسْلِمُ الجسمِ إلى الدودِ الحقيرْ؟
**
قصةُ الزُّهدِ التي غَنَّوْا لَهَا
عَلَّلتهمْ بالسَّرابِ الخَادعِ
نشوةُ الشاعر، ما أجملَها!
هيَ مفتاحُ الخلوْدِ الضَّائعِ!!
**
لو أصابُوا حكمةً ما اتَّهموا
وَبَكَى لَاحيكَ وَالمسْتهجنُ
فهوَ من دنياهمُ لو عَلموا
عَبَثٌ مُرٌّ، وَلَهْوٌ مُحْزِنُ!!

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن علي محمود طه

avatar

علي محمود طه حساب موثق

مصر

poet-ali-mahmoud-taha@

103

قصيدة

467

متابعين

شاعر مصري ينتمي إلى المدرسة الرومانسية،ولد علي محمود طه المهندس عام 1901م بمدينة المنصورة، وقضى معظم شبابه فيها. تعلم في الكُتاب وحفظ بعضا من سور القرآن الكريم، ثم انتقل إلى المدرسة الابتدائية، ...

المزيد عن علي محمود طه

اقتراحات المتابعة

أضف شرح او معلومة