الديوان » العراق » عبد الوهاب البياتي » محنة أبي العلاء

"ولكن الأرض تدور"
غاليليو
1 فارس النحاس
لمن تغني هذه الجنادبْ؟
لمن تضيء هذه الكواكب؟
لمن تدقُّ هذه الأجراسْ؟
وأين يمضي الناس؟
هذا بلا أمسٍ وهذا غدهُ قيثارةٌ خرساء
داعَبَها، فانقطعتْ أوتارُها ولاذَ بالصهباء
وذا بلا وجهٍ، بلا مدينةٍ، وذا بلا قناعْ
أشعل في الهشيم ناراً وانتهى الصراع
وذا بلا شراع
أبحرَ حول بيته وعادْ
حياتُهُ رمادْ
وليلهُ سهادْ
يا موتُ! يا نعاسْ!
لوركا ونور العالم الأبيض في الأكفان
وفارس النحاس
في ساحة المدينة
تجلده الرياح
تنوشه الرماحْ
سيصبحُ الصمتُ رهيباً عندما أكسر عند قدميكَ أبتي الإناء
متُّ وما تزال حياً أنت والريح التي تبكي
تهز البيت في المساء
حرمتني من نعمة الضياء
علمتني ثقل غياب الكلمات وعذاب الصمت والبكاء
الشارع الميّت غطى وجهه الصقيع
والباب أغلقت إلى الأبدْ
ثلاثة منها أطل في غد عليك
مُقبّلاً يديك:
لزوم بيتي وعمايَ واشتعال الروح في الجسد
***
2 العباءة والخنجر
شربت من خمر الأمير، ورأيتُ في نهار ليله النجوم
أكلتُ من طعامه المسموم
أصبتُ بالتخمة والحمى وبالضجرْ
أصبحتُ في بلاطه حجر
ليلاً بلا سحرْ
قيثارة مقطوعة الوتر
عباءة بالية، مسمار
صفراً يدور في الفراغ، آلةً تُدار
كنتُ إذا ما غاب عبر حجرتي القمرْ
وغسل المطر
ذوائب الشجر
أنزع نفسي في بلاط قصره، وأكسر الحجرْ
أشدّ في قيثارتي الوتر
أمدّ للسحر
يدي التي تثلجتْ
يدي التي تحجرت، وأصبحتْ
من دون أن أدري إلى الأمير
خنجره وصوته، صوتي أنا الكسيرْ
يدي التي استرجعتُها
أمدّها، لتنفخ الحياة في الجماد
لتزرع الاوراد
أمدها للشمس والريح وللمطر
لإخوتي البشر
***
3 المغني والأمير
كان على الحصيرهْ
ممدداً مناجياً أميره:
يا قمر الزمانْ
أسألك الأمان
فإنني رأيت في الأحلامْ
تاجكَ منه يصنع الحداد
نعل حصاني، ويحز رأسك الجلاد
وتجدب الحقول في شتاء هذا العام
وتفتك الملةُ بالجباة والقضاهْ
ويحكم العصاةُ والأشباه.
وإنني رأيتُ في اليقظة في السماء
سجادة حمراء
مسحورةً تطير في الهواء.
فانتفض الأمير ثم ضحكا
وقال للجلاد شيئاً وبكى
فاصطفقت وأُغلقت أبوابْ
وانقلبت آنيةُ الطعام والشراب
وسكت القيثار
وانطفأ القنديل ثم أُسدل الستارْ
***
4 سقط الزند
مجلسهُ كان يعجّ بدواب الأرض والهوامْ
من كل صعلوك شويعر، دعيٍّ داعر نمّام
كان – إذا ما أنشدوا أشعارهم – ينام
مفلطحاً ومتخما
وكلما
أنشد منهم أحدٌ تململا
وقال لا!
مولاي، هل يخفى القمر؟
ويغضب الأميرْ
ويصفع الشاعرَ، فالقمرْ
يغيب كل ليلة في صفحة الغديرْ
كان زماناً داعراً، يا سيدي، كان بلا ضفافْ
الشعراء غرقوا فيه وما كانوا سوى خراف
وكنتَ أنت بينهم عرّاف
وكنت في مأدبة اللئام
شاهدَ عصرٍ سادَهُ الظلامْ
قافيةُ الهمزة كانت بغلةً عرجاءْ
يركبها الأمير كلّ ليلةٍ ليلاء
كلُ القوافي أصبحت، يا سيدي، كالبغلة العرجاء
كان زماناً داعراً، كان بلا حياء
***
5 حسرة في بغداد
أبحثُ عن سحابة
خضراء، عني تمسح الكآبة
تحملني
إلى براري وطني
إلى حقول السوسنِ
تمنحني
فراشةً ونجمة
وقطرةً بها أبل ظمأي وكِلْمَة
فماءُ دجلةَ الحزين اعتكرا
وما جرى
إلا ليغرقَ السدودَ والقرى
فمن ترى؟
بمائه يغسلني
تحت ظلال نخله يدفنني
ببيت شعرٍ بعد ألفِ سنةٍ ينشدني
فوطني بعيدْ
وبيننا هذي الليالي السودْ
والحبر والأوراقْ
وحائط الأشواقْ
معرّة النعمان يا حديقة الذهبْ
الصيفُ جاء وذهبْ
وأنتِ تضحكين
لاهيةً، بالرمل تلعبينْ
حطّ على شُرفتك الغرابْ
وارتحل الأحباب
تفرقوا قبائلْ
وجفّت الخمائل
وهاجرت مع الضحى العنادل
لم يبق إلا الموتُ في الأطلال والهياكل
لم يبق إلا الشعرُ في ذاكرة الأحقاب
وبعد ألف سنةٍ ستنضجُ الأعناب
وتُملأ الأكواب
ويُبعث المغني
فآهِ ثم آهِ يا صبابتي وحزني
***
6 قمر المعرة
الليل في معرة النعمانْ
زنجيةٌ على رخام جيدها قلائد الجمان
يا آخر الدنيا
ويا نافورةً تنحب في بستانْ
من أي أرض هذه الألحانْ
وأي رعد عاقر أيقظ في الوديان
منازلَ الأقنان؟
وحرّك الأضغان؟
في هذه الضفادع المقطوعة اللسان
فاستيقظي يا صخرة في الصدر، يا رمحاً بلا سنان
يا كلماتٍ خُضِّبتْ بالدم، يا ناراً بلا دخان
ولتُسكتي ضفادع السلطان
والجيفَ الموشومة
بالنار والجرائد القديمة
ولتضئِ البروق
يا أم دفرٍ، وجهك المسحوق
وثوبَك المرقّع المسروق
فالفقراء صلبوا في السوق
سلطانك المخلوعْ
وكفروا بالجوع
ولتُضئِ المشاعلْ
ظلام هذا الكوكب الغارق بالأوحال والصقيع
هذا الأقحوان الذابل
***
7 لزومية
حزن بلا صوتٍ وقيثارةٌ
أرهفها، قبل الأوان، الشقاءْ
فاحترقت أوتارها في يدي
وكان لي بها ومنها وقاء
"آهٍ غداً من عرقٍ نازلٍ
ومهجةٍ مولعةٍ بارتقاء
ثوبيَ محتاجٌ إلى غاسلٍ
وليت قلبي مثله في النقاء"
يا حافر البئر بأوجاعه
ومودعاً رحمته في السقاء
وجاعلاً من كلماتي فماً
يصيح في ليلٍ بلا أصدقاء
عمّقْ وعمّقْ فغداً ينتهي
عذابك الأسود بعد اللقاء
خبزك مسمومٌ فكُلْ ما اشتهتْ
نفسك، ولتنعم بطول البقاء
***
8 لتكن الحياة عادلة
الموتُ عدلٌ – حسناً، فلتكن الحياه
عادلة، وليُمنح الشحاذُ عرشَ الشاه
فمصطفى مات على الرصيف في الظهيرة
والشاه مات فوق صدر الدمية الأميرة
مُخدّراً وعاريا
وعندما بكاهُ شاعرُ البلاط، نبح الكلب، عليه باكيا
ولبس المهرجُ السواد
حزنا على سيده
حزناً على البدر الذي غاب عن البلاد
ومصطفى في حفرةٍ مهجورْ
عيونُهُ فارغةٌ وأنفه مكسور
ومصطفى الآخر في الحقل على مسحاته يخور
مهشماً منخور
عيونُهُ جاحظةٌ ووجهه مجدورْ
يستقرئ الأرض ويمضي باحثاً فيها عن الجذور
السندباد من هنا مرَّ، ومرت هذه العصور
وألف نملة بنَت وهدمت قصورْ
وهو على مساحته يدور
والشاه في بلاطه مخمور
يغرق في الحرير والأطياب
ويطعم الكلاب
الموت عدلٌ – حسناً، فليُضرَبِ الشاهُ على قفاهْ
حتى يموتَ، ولتكن عادلةً يا سيدي، الحياهْ
***
9 الضفادع
ضفادعُ الحزنِ على بحيرة المساءْ
كانت تصبّ في طواحين الليالي الماء
تقارض الثناء
ما بينها، وتنشر الغسيل في الهواء
وتشرب الشاي وفي المكاتب الأنيقة البيضاء
والصحف الصفراء
كانت تقيء حقدها على الجماهير، على المارد وهو يكسر الأغلال
ضفادع كانت تسمي نفسها "رجالْ"
رأيتهم في مدن العالم، في شوارع الضباب
في السوق، في المقهى، بلا ضمير
يزيفون الغد والأحلام والمصير
رأيتهم من عرق الجياع
ومن دم الكادح، يبنون لهم قلاعْ
أعلى من السحاب
حتى إذا ما طلع الفجر، رأيتُ هذه الضفادع العمياء
على كراسي الحكم في رياء
تغازل الجياعْ
وتفرش الأرض لهم بالورد والريحان
يا ضيعة الإنسان
يا سيدي، في هذه الأزمان
ما دام في المعجم شيءٌ اسمهُ النسيان
***
10 ولكن الأرض تدور
إذا أردتم، سادتي، فالأرضُ لا تدورْ
ولا يغطي نصفَها الديجور
ولا تضم هذه القبور
إلا الدمى ولعب الأطفال والزهور
وكل ما كان وما يكون
مقدّرٌ مكتوبْ
فأنتم الأسيادْ
ونحن في بلاطكم طنافس وخدمٌ نسوس في الحظائر الجياد
ونحن في الحرب لكم أجناد
نموت من أجل عيون قطط الأمير
ولمعان ذهب اللصوص والتجار في خنادق الهجير
ونحن في جنازة الغروب
شعبٌ فقيرٌ جائعٌ مغلوب
استباحه المغول
إذا أردتم، سادتي، أقولْ
ما قاله الشاعرُ للسلطان
عبر عصور القهر والهوان
فنحن بركانٌ بلا دخان
وثورةٌ ليس لها أوان
إذا أردتم، سادتي، فلتسكتوا الشاعرَ ولتحطموا القيثار
ولتوقِفوا الأنهار
فعصركم مضى إلى الأبدْ
ولم تعودوا غير أشباحٍ بلا قبور
والأرضُ، رغم حقدكم، تدور
والنورُ غطى نصفها المهجور
***

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن عبد الوهاب البياتي

avatar

عبد الوهاب البياتي حساب موثق

العراق

poet-abdul-wahab-al-bayati@

20

قصيدة

413

متابعين

عبدالوهاب البياتي شاعر واديب عراقي ولد عام 1926م في بغداد. ويعد احد رواد الشعر الحر، عمل مدرساً من 1950 إلى 1953، ثم بدأ مسيرته في العمل الصحافي منذ عام 1954 ...

المزيد عن عبد الوهاب البياتي

اقتراحات المتابعة

أضف شرح او معلومة