الديوان » العراق » عبد الوهاب البياتي » الذي يأتي ولا يأتي

(سيرة ذاتية لحياة عمر الخيام الباطنية الذي عاش في كل العصور منتظراً الذي يأتي ولا يأتي)
"كل فنان يحتفظ في أعماقه بينبوع فريد، يشكل مصدر تصرفاته وأقواله طوال حياته. إن هذا الينبوع، بالنسبة لي، يظل أبداً ذكريات عالم البؤس والضوء الذي عشت فيه لفترة طويلة"
ألبير كامو
"صورة على غلاف"
كان على جواده، بسيفه البتّار
يمزق الكفّار
وكانت القلاع
تنهار تحت ضربات العُزَّلِ الجياع
مولايَ: لا غالب إلا الله
فلتغسل السحابة
أدرانَ هذي الأرض، هذي الغابة
ولينهض الموتى من القبور
ولتحرق الصاعقةُ الجسور
والجثث المنفوخة البطون
فَحَول رأس القيصر، النسور
تحوم؛ والأمطار
تغسل جرحك الدفينَ؛ تغسل الأشجار
مولايَ: لا غالب إلا الله
فآه ثم آه
مملكة الموت على أسوارها الحرّاس
يرنِّقُ النعاس
عيونهم؛ فلتُفتح البوّابة
وليدخلِ الغالبُ والمغلوب
فالفجر في الدروب
عما قريب؛ يوقظ الحراس
ويقرع الأجراس
مولاي! قال النجمُ لي، وقالت الأقدار
بأننا ممثلونَ فاشلون فوق هذا المسرح المنهار
وأن هذي النار
الشاهر الوحيد في محكمة الزمان
تصدّعَ الإيوان
واحترقت أوراقنا الخضراء في الحديقة المعطار
والعندليب طار
مولاي، لا غالب إلا الله
فآه ثم آه
***
"الطفولة"
وُلدتُ في جحيم نيسابور
قتلتُ نفسي مرتين، ضاع مني الخيط والعصفور
بثمن الخبز، اشتريت زنبقاً
بثمن الدواء
صنعت تاجاً منه للمدينة الفاضلة البعيدة
لأمّنا الأرض التي تُولد كل لحظة جديدة
نمت على الأرصفة الغبراء
اصطدتُ الفراشات، وقعتُ في شِراك النور
وسحب الخريف والغابات والزهور
كلّمتُ نجمة الصباح، قلتُ يا صديقة
أتزهر الحديقة؟
وتولد الحقيقة؟
من هذه الأكذوبة البلقاء
طفولتي الشقية الحمقاء
فراشة عمياء
البشر الفانون في مدينة الحديد والأحجار
تسلقوا الأسوار
ونصبوا الشراك
قالت، ومدت يدها: أهواك
وابتسم الملاك
وغاب في الجدار
يا عندليب العاشق الأعمى، ويا خزائن الأسرار
أبحرت السفينة
تبحث في الأصقاع عن مدينه
لم يقف الشحاذ في أبوابها يوماً ولم يُسند على رصيفها جبينه
لكنما السفينه
عادت مع المساء للمدينه
تحمل فوق ظهرها الشحاذ
مقوّس الظهر، بلا عيون
الجثث المبقورة البطون
تسدّ هذا الشارع الملعون
متى؟ متى أيتها الشمطاء؟
ستمطر السماء!
وتولد الحقيقة؟
من هذه النفاية الغريقة!
***
"الليل فوق نيسابور"
كل الغزاة، من هنا، مرّوا بنيسابور
العربات الفارغة
وسارقو الأطفال والقبور
وبائعو خواتم النحاس
وقارعو الأجراس
كل الغزاة بصقوا في وجهها المجدور
وضاجعوها، وهي في المخاض
حياتنا فيها، وفي داخل هذا النفق المسدود
روايةٌ مُملةٌ مثّلها أحمقُ أو مجنون
أيتها الأنقاض!
دقّت طبول الموت في الساحات
وأُعدم الأسرى وهم أموات
لسانها الثرثار
يقطع فيه خشب التابوتْ
خيوط عنكبوت
تلتفُّ حول هذه الذبابة
أيتها السحابة!
لتغسلي ذوائب المدينة الثرثارة
وهذه القذارة
كل الغزاة، من هنا مرّوا بنيسابور
على ظهور الصافنات وعلى أجنحة الطيور
البشر الفانون
يحطّمون بيضة النسر، ويُولدون
من زبد البحر ومن قرارة الأمواج
من وجع الأرض ومن تكسُّرِ الزحاح
أقدام جرذان على السجاد
مرّت، ونار ومضت من خلل الرماد
لنقرأ الكتاب بالمقلوب
مُنقّبين في حواشيه عن المكتوب والمحجوب
كان علينا أن نضيء النور
في ليل نيسابور
***
"في حانة الأقدار"
القمر الأعمى ببطن الحوت
وأنت في الغربة لا تحيا ولا تموت
نار المجوس انطفأت
فأوقد الفانوس
وابحث عن الفراشة
لعلها تطير في هذا الظلام الأخضر المسحور
واشرب ظلام النور
وحطِّم الزجاجة
فهذه الليلة لا تعود
أصابك السهم فلا مفر، يا خيّام
ولتحسب الديك حماراً، إنها مشيئة الأيّام
الظبي في الصحراء
وراءَهُ تجري كلاب الصيد في المساء
والخمر في الإناء
فعُبَّ ما تشاء
بقبّة السماء
أو قدح البكاء
في حانة الأقدار
حتى تموتَ فارغَ اليَدين تحت قدم الخمّار
رفيقك الوحيد في رحلتك الأخيرة
لمدن النمل التي تحكمها الأرقام والبنوك
يا أيها المملوك
بكم تبيع هذه القيود؟
فهذه الليلة لن تعود
طارت، كما طار بنا بساطُ ألف ليلة
معانقين تحت أضواء النجوم "دجلة"
وزارعين نخلة
فداعب الأوتار
فديكُ هذا الليل مات قبل أن ينبلج النهار
***
"طردية"
الأرنب المذعور عبر الغسق الغارق في الضباب
تنهشه الكلاب
بكم تبيع، أيها الصياد!
شهادة الميلاد؟
كاترين، وهي تلد الحياة
ماتت، وهذا الأرنب المذعور
يصبغ في دمائه مخالب الكلاب والأعشاب
شيخ المعرّة الضرير يفتح الكوة في اكتئاب
ويحدج السماء
بنظرة ازدراء
الصيف مرّ، والخريف غمر الغابة بالأوراق
أهكذا ينتحب العشاق؟
ويغرق النهار في البحيرة الكبيرة؟
وترحل الطيور
والأرنب المذعور
يموت تحت قدم الصياد
مخضّباً بدمه الأوراد
لوركا يُجَرُّ واقفاً للموت في الميلاد
أمامه، كانت كلاب الصيد تجري
تنبح الجلاد
أهذه الآلام
وهذه السجون والأصفاد
شهادة الميلاد، يا خيّام
في هذه الأيام؟
دفنت رأسي في الرمال، ورأيتُ الموت في السراب
فقير هذا العالم الجوّاب
ينام في الأبواب
يمد لي يديه في الظلام
ويقرأ التقويم بالمقلوب
بحيلة المغلوب
مولايَ، قال النجم لي، وقال لي الرماد
إياك والفرار
أمامك البحر ومن ورائك العدوّ بالمرصاد
والموت في كل مكان ضرب الحصار
فلنشرب الليلة حتى يسقط الخمّار
في بركة النهار
***
"الموتى لا ينامون"
في سنوات الموت والغربة والترحال
كبرتَ يا خيّام
وكبرت من حولك الغابة والأشجار
شعرُكَ شاب والتجاعيد على وجهك والأحلام
ماتت على سور الليالي، مات "أورفيوس"
ومات في داخلك النهر الذي أرضع نيسابور
وحمل الأعشاب والزوارق الصغيرة
إلى البحار، حمل البذور
وعربات النور
إلى غد الطفولة
كبرت يا خيّام
وكبرت من حولك القبيلة
عائشة ماتت، وها سفينة الموتى بلا شراع
تحطمت على صخور شاطئ الضياع
قالت، ومدّت يدها: الوداع
أراك بعد الغد، في المقهى، وغطّت وجهه سحابه
من الدموع، بلّلتْ كتابه
عائشة ماتت، ولكني أراها تذرع الحديقة
فراشة طليقة
لا تعبر السور، ولا تنام
الحزن والبنفسج الذابل والأحلام
طعامها في هذه الحديقة السحريّة
أيتها الجنية!
تناثري حطام
مع الرؤى والورق الميّت والأعوام
وخضّبي بالدم هذا السور
وأيقظي النهر الذي في داخلي مات ورشّي النور
في ليل نيسابور
ولتبذري البذور
في هذه الأرض التي تنتظر النشور
***
"الذي يأتي ولا يأتي"
عائشة ماتت، ولكني أراها تذرع الظلام
تنتظر الفارس يأتي من بلاد الشام
أيتها الذبابة العمياء
لا تحجبي الضياء
عني، وعن عائشة، أيتها الشمطاء
مغشوشة خمرة تلك الحان
سكرتَ بالمجان
وزحف الدود على جبينك الممتقع الأسيان
وجفّت العينان
مولايَ، لا يبقى سوى الواحد القيّوم
وهذه النجوم
الكل باطل وقبض الريح
عائشة ماتت، ولكني أراها مثلما أراك
قالت، ومدّت يدها: أهواك
وابتسم الملاك
فلتمطري أيتها السحابة
أيّان شئت، فغداً تخضرّ نيسابور
تعود لي من قبرها المهجور
تمسح خدّي وتروّي الصخر والعظام
يأتي، ولا يأتي، أراه مقبلاً نحوي، ولا أراه
تشير لي يداه
من شاطئ الموت الذي يبدأ حيث تبدأ الحياه
مَنْ كان يبكي تحت هذا السور؟
كلاب رؤيا ساحر مسحور
تنبح في الديجور
أم ميّت الجذور
في باطن الأرض التي تنتظر النشور
مَنْ كان يبكي تحت هذا السور؟
لعلها الريح التي تسبق مَنْ يأتي ولا يأتي
لعل شاعراً يولد أو يموت
***
"الرؤيا الثالثة"
تمرّغي أيتها الكلاب في الوحول
وقبّلي أحذية الملوك
والخرز الملوّنة
ومعجزات الكهنة
والمارقين الخونة
مولايَ، هذا الحسن الصباح
على جواد الفجر مرَّ، من هنا وغاب
أيتها الأشباح!
أرى بعين الغيب نيسابور
تحوم حول رأسها النسور
يُسلخ جلدها وتُشوى حيةً في النار
أرى الثعابين على الأسوار
والملك الحمار
يُباع في الأسواق
أرى البذور فتّحت عيونها في باطن الأرض وشقّت دربها للنور والهواء
مولايَ، هذي زهرةٌ تبكي على عتبة هذي الدار
وهذه أخرى على الجدار
تمدّ للصغار
خصلتها المعطار
ثور حراثة يشقّ الأرض في إصرار
البشر الفانون يولدون
من زبد البحر ومن قرارة الأمواج
من وجع الأرض، ومن تكسّر الزجاج
فلتمطري أيتها السحابة
أيّان شئتِ، فحقول النور
امرأة تولد من أضلاع نيسابور
***
"العودة من بابل"
معجزة الإنسان أن يموت واقفاً، وعيناه إلى النجوم
وأنفه مرفوع
إن مات أو أودت به حرائق الأعداء
وأن يضيء الليل وهو يتلقّى ضربات القدر الغشوم
وأن يكون سيّدَ المصير
مولايَ قال النجم لي، وقال لي الغدير
من ههنا الإسكندر الكبير
مرّ على جواده منهزماً محموم
أيتها النجوم
بابل تحت خيمة الليل إلى الأبد
تعوي على أطلالها الذئاب
ويملأ التراب
عيونها الفارغة الحزينة
بابل تحت قدم الزمان
تنتظر البعث، فيا عشتار
قومي، املئي الجرار
وبلّلي شفاه هذا الأسد الجريح
وانتظري مع الذئاب ونواح الريح
ولتُنزلي الأمطار
في هذه الخرائب الكئيبة
لكنما عشتار
ظلت على الجدار
مقطوعة اليدين، يعلو وجهها التراب
والصمت والأعشاب
وحجراً أخرسَ في الخرائب الكئيبة
أيتها الحبيبة!
عودي إلى الأسطورة
سنبلةً، شمساً بلا ظهيرة
امرأة من الدخان، جرّةً مكسورة
تمّوز لن يعود للحياه
فآه ثم آه
بابل تحت قبة الليل، بلا زاد ولا معاد
بلا حنوط، ترتدي عباءة الرماد
صحتُ على أطلالها: عشتار!
فصاحت الأشجار
عشتار، يا عشتار، يا عشتار!
تصدّع الجدار
وغاب في الخرائب القمر
وانهمر المطر
***
"بكائية"
عدتُ إلى جحيم نيسابور
لقاعها المهجور
للعالم السفلي، للبيت القديم الموحش المقرور
أبحث عن عائشة في ذلك السرداب
أتبع موتها وراء الليل والأبواب
كزورق ليس به أحد
تتبعني جنازة الشمس إلى الأبد
من ههنا أنزلها الحفار
للقبر وهي في ثياب العرس، فوق رأسها تاجٌ من الأزهار
وغيمة من نار
وههنا ساحرة شمطاء
كانت وراء النعش تبكي، وهنا عصفور
حطّ على التابوت
أتبع موتها بلا دليل
أجرّ خلفي سنوات حبّها كذيل ثوبٍ فاقع طويل
طرقت باب العالم السفلي مرّتين
فمدَّ لي حارسها يدين
وقال لي: من أين
قلت: أنر لي هذه السهوب
فالليل في الدروب
قال، وكانت يده تعبث بالمكتوب
ليقرأ المحجوب:
عائشة ليست هنا، ليس هنا أحد
فزورق الأبد
مضى غداً، وعاد بعد غد
عائشة ليس لها مكان
فهي مع الزمان، في الزمان
ضائعة كالريح في العراء
ونجمة الصباح في المساء
فعُدْ لنيسابور
لوجهها الآخر، يا مخمور
وثُرْ على الطغاة والآلهة العمياء
والموت بالمجان والقضاء
***
"الحجر"
من أسفل السُلَّم ناديتُكَ، يا ربّاه
جلديَ يسّاقط في الظلام
شَعريَ شاب، طائر الشباب
يسفّ في الضباب
منكسر الجناح
النسغ في العروق والأوراق
يجف مثلما يجف الحبر في الدواه
الليل طال، طالت الحياه
وبردت جدران هذا القلب يا رباه
جنّية البحر على الصخرة تبكي: مات سندباد
وها أنا أراه
بورق الجرائد الصفراء، مدفوناً، ولا أراه
مركبهُ يُباع في المزاد
وسيفه يكسره الحداد
من يشتري عبداً طروباً؟ قالت الأصفاد
وقال لي الجلاد
رباه طالت غربتي رباه!
وغرقت عبر الليالي "إرم العماد"
عصا سُليمان على بلاطة الزمان
وهو عليها نائم، متكئ، يقظان
ينخرها السوس، فيهوي ميتاً رميم
تفسَّخ الجديد والقديم
تعفَّن الماء وجفّت هذه الآبار
تعرّت الأشجار
ونثر الخريف فوق الغابة الرماد
وها أنا أحملُ في نقالة الموتى، إلى مدينتي، حجر
أمدّ كفي مثل شحّاذ إلى المطر
لعل قطرةً تبلّل الزجاج، تثقب الظلام
تهرّأ الخيّام
وسقطت أسنانه وجفّت العظام
وهجرت يقظته عرائس الأحلام
والدود فوق وجهه فارَ وفي الأقداح
العندليب قال لي، وقالت الرياح
الليل طال، طالت الحياه
فأين يا ربّاه!
شمسك! تُحيي الحجر الرميم
وتشعل الهشيم
***
"الموت"
الثعلب العجوز
الملتحي بالورق الأصفر والرموز
المرتدي عباءة الليل، وفوق رأسه طاقية الإخفاء
يفتضُّ كل ليلة عذراء
يفترس النعاج والأطفال
يرضع ثديَ هذه الشمطاء
يغدر بالعشاق
يضحك مزهواً من الأعماق
يرفس في حافره السماء
يلعب بالتيجان
نرداً مع الشيطان
يأخذ شكل هرة سوداء
تموء في الظلماء
يطارد الفراخ والأشباح
يمارس السحر بلا شعوذةٍ، ويضرب الضحية العمياء
بيده الثلجية الصفراء
يقرأ في كل اللغات كتب الفلسفة الجوفاء
يرمي بها للنار
يزيّف النقود والأفكار
يندسُّ في قلب المغنّي، يقطع الأوتار
يذلّ من يشاء
يعزّ من يشاء
الملك الوحيد في مملكة الأحياء
الثعلب العجوز
الملتحي بالورق الأصفر والرموز
يغدر بالجلاد والضحية
يغتصب الجنّية
في قصرها المسحور
يجرّها من شَعرها عاريةً للنور
يعوي مع الرياح
يُطفئ في قصر الأمير النائم المصباح
ينسلُّ في فراشه بردان
ينعب فوق الطلل البالي مع الغربان
الثعلب العجوز، مرّ من هنا، سكران
حوّم حول البيت واستدار
أخرج لي لسانه وسار
ينفخ في المزمار
تتبعه عجائز القرية والأطفال
***
"الوريث"
يجفُّ في عيون بوذا النور
تنقطع الجذور
وآخر السلالة
حفيد هوميروس في مدريد
يُعدم رمياً بالرصاص، إرم العماد
تغرق في ذاكرة الأحفاد
مات المغني، ماتت الغابات
وشهريار مات
وريث هذا العالم المدفون في أعماقنا يموت
المعدن الخسيس والياقوت
سفينة تغرق في عاصفة، تابوت
يضم عظمين وعنكبوت
بوذا وأورفيوس
المدن الغالبة المغلوبة
بابل، روما، نينوى وطيبة
الله والشيطان
وريث هذا العالم الإنسان
يحوم حول سوره عريان
فاكهة محرَّمة
ومدن بلا ربيع مظلمة
مفتوحة، مستسلمة
تحيا على الفُتات
مات المغني، ماتت الغابات
والعندليب مات
وريث هذا العالم المدفون في الأعماق
يلهث مهزوما على قارعة الطريق
يحمل وجه هالكٍ غريق
ينام في المقهى، ككلبٍ جائع، أفّاق
يبحث عن وظيفة شاغرة في صحف الصباح
يعدو بلا أقدام
في الشارع المهجور والزحام
تأكله الحمى، تُدير رأسه الأرقام
يجوب مهجوراً بلا أحلام
شوارع المدينة الخلفية الصمّاء
يُفرغ في حدائق المساء
حياته الجوفاء
وريث هذا العالم المُهان
حياته الجوفاء
وريث هذا العالم المهان
يبحث عن مكان
يموت فيه صاغراً، كالكلب، بالمجان
***
"الليل في كل مكان"
عديدة أسلاب هذا الليل في المغارة
جماجم الموتى، كتاب أصفرٌ، قيثارة
نقش على الحائط، طير ميّت، عبارة
مكتوبة بالدم فوق هذه الحجارة
عديدة أفراح هذا العالم الكبير
عري السماء الأبدي الأزرق المثير
عذوبة الخريف
السمك الفضيّ في البحار
المعدن الخسيس فوق النار
الفجر والنساء والأفكار
نقش على الحائط، جيل غاضب، بحّارة
كانوا يموتون، وكان البحر في المغارة
امرأة تنام في محارة
الليل في كل مكان، وأنا أنتظر الإشارة
وددت لو أغرقت هذا المركب المليء بالجرذان
وهذه المدينة المومسة الشمطاء
لو علّق الشاعر – هذا الببغاء الأعور السكران
من ذيله، بالكلمات والدمى الصلعاء
الساسة المحترفون ورجال المال والملوك
سادة هذا العالم المنهوك
وأنت سيد بلا مملوك
عليك مكتوب بأن تحوم حول السور
تلتقط الفتات والقشور
تجوب هذا العالم الماخور
منسحقاً مقرور
الليل في كل مكان، وأنا أنتظر الإشارة
أيتها المحارة
تكسّري، تطايري، تقمّصي العبارة
واندلعي شرارة
تحرق نيسابور
تغسل وجهها البليد الشاحب المقهور
***
"البحث عن الكلمة المفقودة"
الزمن الضائع والأرض التي تهجرها الطيور
والموت في الظهيرة
في النفق المسدود
تمزق الجذور
في باطن الأرض، انهيار هذه السدود
صيحة أنثى الحيوان، رقصة الأفعى على الأنغام
تراكم الحزن، اختناق الصمت في الزحام
عذابك المقيم
أشعل هذي النار في الهشيم
أيقظ نيسابور
وكسّر الزجاج في نوافذ الماخور
خيط دم يجري على الأرض الموات، في عروق النور
الزمن الضائع والشكوى التي تصاعدت من هذه الآبار
دوّرت الأصفار
وغسلت عن وجهها الأقذار
الوجه والقفا لهذي العملة القديمة
الجوهر المكنون
الأمل الباقي، انعكاس النور في العيون
البشر الفانون في الظهيرة
يمارسون لعبة الحياة
والموت في المسيرة الطويلة
يحترقون ليضيئوا شرف الإنسان
أن لا يموت راكعاً منسحقاً مُهان
كالكلب تحت عجلات العار
وأن يعيش في خطوط النار
منتصراً، حتى وإن حاقت به الهزيمة
الوجه والقفا لهذي العملة القديمة
توهّجا، ووُلد الإنسان من جديد
شجيرة من خلل الرماد والجليد
مزهرة؛ وصيحة أطلقها وليد
الزمن الضائع في تزاحم الأضداد
يخلع عن كاهله عباءة الرماد
***
"خيط النور"
رأيته يصارع الثيران في مدريد
يغزو قلوب الغيد
يضحك من أعماقه، منتظراً، وحيد
بوابة الأبد
مغلقة، ليس هنا أحد
يضحك، من أعماقه، الجسد
يلسعه ثعبان
رأيته يصارع الثيران
مضرّجاً بدمه، يصرعه قرنان
يبيع في مطار روما علب الكبريت
وصحف الصباح والأزهار
يُعلِّم الصغار
في الهند، يعلو وجهه اصفرار
يصيح في مئذنة، يدق في ناقوس
يمارس الطقوس
يعدم رمياً بالرصاص، عارياً يُولد أو يموت
يزرع في الجليد
بنفسجات حبه الجديد
يزور في أعياده الموتى، يغني الموت في الميلاد
يحمل في ضلوعه بغداد
يمد نحو الموطن البعيد قوس قُزح السماء
يجهش في البكاء
يضاجع النساء
يكتب فوق حائط السجن، وفوق جبهة المدينة
أشعاره الحزينة
مناضلاً يموت في مدريد
مضرجاً بدمه وحيد
تحت قرون الثور أو في ساحة الإعدام
الدم في كل مكان ساخناً يسيل
مُرَوِّياً هامة هذا الجبل الثقيل
رأيته يمتد من جيل إلى جيلٍ كخيط النور
في عالم الفوضى وفي تزاحم الأضداد والعصور
الدم في كل مكانٍ ساخناً يسيل
يلعق في لسانه المحارة
يفتضّها، يغتصب العبارة
يعيدها صبيةً ناضرة البكارة
رأيته يُولد في مدريد
في ساحة الإعدام أو في صيحة الوليد
متوّجاً بالغار
تحوم حول رأسه فراشةٌ من نار
***
"الصورة والظل"
لو جمعت أجزاء هذي الصورة الممزَّقة
إذا لقامت بابلُ المحترقة
تنفض عن أسمالها الرماد
ورفّ في الجنائن المعلّقة
فراشة وزنبقة
وابتسمت عشتار
وهي على سريرها تداعب القيثار
وعاد أوزوريس
لانطفأت أحزان حادي العيس
ونوّرت في سبأٍ بلقيس
وعادت البكارة
لهذه الدنيا التي تضاجع الملوك والحجارة
لهذه القديسة الهلوك
لو جُمعت، لاندلعت شرارة
في هذه الهياكل المنهارة
لزلزَلت مقابر الأسمنت والحديد والبنوك
وصاح ديك الفجر في طهران
وَوُلد الإنسان
من زبد البحر ومن قرارة الأمواج
من وجع الأرض ومن تكسر الزجاج
لغسل المدُّ جدار العار
وانهارت الأسوار
لو جُمعت، لعاد أوزوريس
من قبره المائي، من غياهب المجهول
لأزهر الرماد في الحقول
ونُزعت أنياب هذا الغول
لو أكل الآباء هذا الحصرم المسموم
لضرس الأبناء، لانهالت على الخمائل النجوم
وعادت الروح وعاد النور
وبُعث المقبور
لسقط القناع
عن وجه هذا الشاهد المشوَّه المجدور
وانحسر الظل عن الصورة واندكَّ جدار الزور
***
"تسع رباعيات"
(1)
باع المسيح دمه للملك الحمار
وانهزم الثوار
وغرق العالم بالأوحال
وسقطت أقنعة المهرِّجين في وحول العار
(2)
أشعلت في فراش حبي النار
تركتني أهرم في أبوابهم، أنهار
أحرقتني نفختني رماد
ونمت كالثعبان في الجدار
(3)
الكلمات قطع الحبل بها الحفّار
فسقطت في عتمة الآبار
والبهلوانات على الحبال
ذابوا كما يذوب مسخ الليل في النهار
(4)
لا بدّ يا سقراط
أن تجد المعنى وأن نمزِّقَ القماط
لا بد أن نختار
لا بد أن يُسلخ جلدُ الشاة، أن يُضربَ هذا المسخ بالسياط
(5)
الساسة المحترفون ينجرون خشب التابوت
وأنت في الغربة لا تحيا ولا تموت
منتظراً محروب
تطمرك الثلوج والنجوم والياقوت
(6)
لا بد أن نختار
أن نقبض الريح وأن نُدَوِّرَ الأصفار
أن نجد المعنى وراء عبث الحياة
فالعيش في هذا المدار المغلق انتحار
(7)
لا بد أن تنهار
روما؛ وأن تُبعث من هذا الرماد النار
أن تحرق الصاعقة الأشجار
لا بد أن يُولد من هذا الجنين الميِّت الثوار
(8)
نعود، مَنْ يدري، ولا نعود
لأمِّنا الأرض التي تحمل في أحشائها جنين هذا الأمل المنشود
وعمق هذا الحزن والوعود
تحوم حول نارنا فراشة الوجود
(9)
الميت الحيُّ بلا زادٍ ولا معاد
ينفخ في الرماد
لعل نيسابور
تخلع كالحية ثوب حزنها وتكسر الأصفاد
***

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن عبد الوهاب البياتي

avatar

عبد الوهاب البياتي حساب موثق

العراق

poet-abdul-wahab-al-bayati@

20

قصيدة

422

متابعين

عبدالوهاب البياتي شاعر واديب عراقي ولد عام 1926م في بغداد. ويعد احد رواد الشعر الحر، عمل مدرساً من 1950 إلى 1953، ثم بدأ مسيرته في العمل الصحافي منذ عام 1954 ...

المزيد عن عبد الوهاب البياتي

اقتراحات المتابعة

أضف شرح او معلومة