الديوان » باسل الحجاج » أخي الصغير

"إهداء: إلى إخوة أبحروا بلا أشرعة إلى فردوس الإله"
أخي الذي يكبرني بعشرٍ من السنين
فارق الحياة على مشارف العشرين 
أحياناً في غمرات الروح
أو حين أحدقُ في المرآةْ
مثل مهرجٍ دمويٍّ حزين
تراودني ذكراه يا أماه
ما بين حين وحين
مبحرًا على زوارق المياه
باحثًا عن ربّ العالمين 
ورغم أني لم أعد أراه
حلمتُ أني أراه
يحدثني عن الله… 
عن الحبّ والصدق والدين
يشاطرني كالإخوةِ المتسامرين
عناقيد عنبٍ حمرٍ وخضراء
تسرُّ الناظرين
وسلالاً يانعة، من لوزٍ وتين!
 
أخي الذي يكبرني بعشرٍ من السنين
تجمّدَ في ثلج الوقت يا أماه
توقّفَت به ساعة العمر واحسرتاه
تبدد كالعطرِ
من قُبلة الموتِ
تطبعُ فجأةً فوق الشفاه!
وأمسى صورةً قديمة 
تقاسي هجرة الألوان
معلقةً كميداليةٍ برونزية 
كمثلِ التيجان النحاسية
على متصدع الحيطان 
إرث أزمنة تواجه النسيان! 
ومهما أَلِفتُ مرغمًا 
حقيقة الخسران
تراودني ذكراه يا أماه
ما بين حين وحين
مثل أغنية جميلة 
تؤوب من زمن بعيد المكان،
لتخفف عنّا قليلاً وطأة الأحزان 
ماسحةً براحتها وعذوبة الألحان 
كالأمِ الرؤومِ رأسَ الوجدان!
 
لقد توالت الليالي والأيام 
صورًا شاحبةً متعاقبة 
كالشرائطِ في بكرة الأفلام
وتعلمت يا أماه
من ثقل النعوش وفجيعة الحرمان 
وخواءِ فقدٍ سرمدي
لا تلمسُ الأناملُ منتهاه
أن أخفي شظايا ذكراه
في صناديقٍ مغلقةٍ عطنة 
لا يفتحها إنسٌ ولا جان
ولا أسألُ عن سيرته الغامضة
ما تيسّر من سراب الآخرين
ففي الختام، 
ما نحن إلا سرابٌ ووهم حزين
ترسمهُ الأدمعُ بدماء الأقلام! 
 
متعتقًا مثل نبيذِ ماديرا 
في قبو الصمتِ والظلام
تعلمتُ ألا أفصح عن ألمٍ دفين
يسكنُ الأعماق، يحرمها السلام
تعلمتُ بحكمة المنهزمين 
ألا أذكر اسمهُ الملغّم بالحنين
على مسامعكِ خشية أن تبكين
ولا أتأمل في صورته المحنطة
أمام عينيكِ المعتمة، لئلا تنزفين 
بحرًا من الملح أو حرائق آه!
متربصًا مثل قناصة المجرمين 
لحظة اقتناص أسفارهِ وحكاياه
حين يستحضر كلُّ جليسٍ موتاه
ففي الختام، 
نحن كوخ أشباحٍ في غابة الأقزام 
وأرواح الموتى كنزُنا الأوحدُ الثمين! 
 
أخي الذي يكبرني بعشرٍ من السنين
أخي الذي تنتظرين
كلما فُتح باب 
أو قُرعت أجراس الرنين 
أصبح أخي الصغير الآن
منذ تجمّد في ثلجِ الوقت
وتوقفت به ساعة الزمان
منذ أن تخلت عنه قاطرة النبضات
وأهرمتني دونهُ رحى السنين 
ورجومٌ من مطارق الأيام!
 
وكَبِرتُ وحدي يا أماه
أسنت في رحم المناجم 
جائعًا للتبرِ مثل الطغاةْ
ولطختني طحالب العفونة 
وسُحنة السخام
أما أخي الصغير 
من حارب الغولة والتنين
ما زال في دفاتر الزمان
مغامرًا على مشارف العشرين
يبحثُ عن جنّة الرحمن
 
أجل كَبِرتُ كثيرًا يا أماه
مثل نصٍ طلسمي السمات
منقوشٍ بمُنقرضِ اللغات
مثل حرباءٍ نفدت منها الأقنعة
واقعةً في فخّ الشيطان!
أما أخي الصغير 
من كان يكبرني بأعوام
لن يكبر في التقويم الهجري 
أو تأريخ بني الإنسان 
سيظلَّ للأبدِ صغيرًا 
كأشجار البونساي
للأبد صغيرًا
في عمر الأحلام!
 
أخي الذي يكبرني بعشرٍ من السنين
أخي الذي تنتظرين
كلما انفلقت بعصا الرحمةِ بحار الغائبين
لن يَكبر مثلي في المرايا
يستسقي البراءة من انعكاس الشياطين
لن يهرم مثلي في يباب الآدميين 
غارسًا بسمةَ عزٍّ قصيرة
رمزًا لرجحانِ كفةِ الصالحين!
لقد انقلبت الأدوارُ 
كسوءِ الحَبكة في رديء الروايات 
منذ تخلى عن مراقصة الساعات
وبقيت وحدي أحصي للسوى
أرانب القروش والريالات!
 
كالحضور السرمدي للمأساة 
مُحزنةٌ ومؤلمة
ملهاة الثوابت والمتغيرات!
في عالم عاقرٍ 
لا يلدُ المعجزات
القلبُ يشيخُ بالمعرفة
ونياشين العمر الخبرات
أوّاه من تحولات أوفيد
في مستنقع السنوات!
 
أخي الذي يكبرني بعشرٍ من السنين
ماتَ… فارق الحياة 
على مشارف العشرين 
لن يكبر مثلي في التيه
متوغّلاً في دهاليز الحياة 
سيظلُّ صغيرًا وبعيدًا
كبريق النجمات!

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن باسل الحجاج

باسل الحجاج

66

قصيدة

شاعر من المملكة العربية السعودية. صدرت له مجموعة شعرية بعنوان "النهر والغريب ومرثية الأقمار المتساقطة"

المزيد عن باسل الحجاج

أضف شرح او معلومة