الديوان » الأب يوسف جزراوي » المقهى البغدادي بين بغداد وبلاد الغرب

 

المقهى البغدادي ( بين الشرق والغرب)

 

لقد اعتاد أهل بغداد أو ( البغداديون) منذ مطلع القرن السّادس عشر على ظاهرةٍ، تفشت بشكلٍّ غريبٍ وانتشرت كنارِ بالهشّيم!؛ ألاّ وهي ( ظاهرة المقاهي الشّاي خانة)، إذ وجد الرجالُ فيها وسيلةً للتترفيهِ واللهو والتسلّيّة، بل قُلْ مُتنفسًا ممّا يعانون مِن كبت حياتي واجتماعي وازمات سياسية، ولعلّي أضيف سببًا آخر؛ الترويح عن النفس والتخفيف مِن قساوة العمل، وهروبًا مِن مشاكل الزوجية….

فالرجل العراقي وقتذاك ولعله كما اليوم، لا يكاد ان ينهي تناول طعامه في البيت حتّى يهم بالخروج إلى المقهى أو الحانات والمراقص والملاهي الليلية…

مع مرور الزمن والحداثة راح السواد الأعظم مِن العراقيين ينظر إلى المقاهي، نظرة سلبية؛ فالبعض يجدها مأوى “ للعاطلين والبطاليين”، والبعض الآخر يراها ملتقى لطالبي الهوى والمزاج مِن الرجال المقامرين، وتجمعًا (للمطيرجية)والسفارات…

كما تفننّ بعض اصحاب المقاهي منذ ظهورها في أساليب جذب الزبائن إليها، فكانوا يستأجرون مَن يُغني ويرقص، أو من يقص عليهم القصص والحكايات المشّوقة، ففي منتصف القرن ١٩ شغف النّاسُ على التهافتِ إلى المقاهي بعد شيوع ظاهرة رقص الخدم فيها، ثم تطور الحال إلى وجود راقصات يرقصن على منصات، ومن هنا ظهر الرقص الشرقي، فأنفق الكثير فيها أموالهم ، وباع بعضهم أملاكه وأهمل نفسه وشؤون عائلته لكي يغدق الهدايا والنقود على هذه وتلك، أو بسبب خسارات فادحة بلعبة الورق ( الكونكان)… ثم ألعاب كالمحيبس، النرد الطاولي، الدومينو، الشطرنج…

قبل عقدٍ مِن الزمانِ شاع المذياع والتلفاز ، عوضًا عن القاصّ والحكواتي، لكي يكون النّاس على تواصلٍ بما يدور حول العالم، وفي زماننا بعد ان دخل الانترنيت ، تفشت ظاهرة الألعاب الإلكترونية وعرض مبارايات كرة القدم في المقاهي.

مِن الأخطاء اللغوية الشائعة هي كلمة ( القهوة) والأصح والأدق ( المقهى)، والتسمية تعود إلى المحل التي تسقى فيه القهوة، لكن لماذا العراقيون والعرب لا يزالون يطلقون على هذه الأمكنة ( المقهى )، علمًا ان معظمها غدت محلاً لسقي الشّاي والحامض، وتقديم الأطعمة والمقبلات والبعض منها للمشروبات الغازية والكحولية والشيشة الاراكيل.

هُنالكَ بطالةٌ حياتية قد تتحول إلى بطالة فكريّة، وهذا هو واقع الكثير من المقاهي التي افتتحها أبناء جلدتي كما العرب في الغرب.

ولعلّي لا أخفيكم سرّا: في هولندا واوربا وأستراليا وجدت بعض المقاهي الأدبية التي تغضّ بالطبقة المثقفة، كنت اقصد بعضها بين الحين والحين، كُلّما أسعفني الوقت وسمحت الظروف، للكتابة أو لجلسات ثقافية، هي اشبه بدواوين أو صالونات أدبية.

معظم المقاهي العربية في الغرب هي في حالة تقليد اعمى، تستنسخ نفسها، لا يجني منها روادها سوى الثرثرة والقيل والقال، ولعب الورق وربّما ( القمار) واحاديث يسودها الصراخ ، بل ارضية خصبة تتبرعم فيها الشائعات والأقاويل وتناقل الأخبار، بل هو المكان الذي قد يتتلمذ فيه العاطل والباطل على مهنة قتل الوقت وهدره.

بعض المقاهي غدت كا الرئة، متنفسًا وتسلية لكبار السنّ والمتقاعدين، وأخرى مخصصة للشبان…وبعضها ارضية للتفسخ الخلقي، وبعض مصنفة حسب الطبقة الاجتماعية

ختامًا

المقهى البغدادي، قرب شارع المتنبي والرصافي والحيدرخانة، الميدان وأبي نواس …كانت وسيلة لمحو الأميّة وتثقيف النّاس، ملتقى الأدباء والشّعراء والمثقفون، ورجالات العلم والسياسة، وأصحاب الشهادات، والدارسون، يتبادلون أطراف الحديث وشؤون الحياة، فكان عامة النّاس يُثقّفون انفسهم بالحضور إليها…. ففي بغداد كان لنا مقاهي كمقهً:الشاه بندر، أمّ كلثوم، عزاوي، والسواس….

على الصعيد الشخصي؛ حتّى لو لم أكن كاهنًا، لم ولن أكون من رواد المقاهي، سوى بعض المقاهي الأدبية على ارصفة المدن، التي يرتادها اصحاب الكلمة والمثقفين وذوي الحضور والكاريزما.

في ولاية كالفورنيا حيث أقطن وأخدم، حفنة مقاهي أدبية مرموقة فلما يعرفها أبناء جلدتي، أقل مِن أصابع اليد الواحدة، وكم كبير من مقاهي Starbucks التي لا أستطيب معظمها…ارتادها احيانًا للمطالعة أو الكتابة.

وقد يعلم العالمون، وربّما يتفق بعظهم معي؛ بإنَّ أمكنة احتساء القهوة في أمريكا أجمل وألذ من مذاق القهوة بحد ذاتها هنا في الكانون وغيرها من المدن بحسب رأيّي الشخصي؛ ولكنّ يا ليت نعيد للقهوة رونقها ومعناها الاجتماعي وحضورها التثقيفي، في كيفية مدّ روادها بالمعلومات الإيجابية، والدردشات البنّاءة، ووسيلة لسقي القهوة وتثقّيف الإنسان وتوسيع الآفاق.
هذا مقال كنتُ قد نشرته في صحيفة العراقية، وضممته ضمن كتابي ( أحاديث قلمٍ في مرايا الذات والمجتمع) وقد ادخلت عليه تعديلات عديدة الآن ونشرته؛آمل أن أكون في هذه العجّالة قد وفقت في المقارنة بين مفهوم المقهى بين الشرق والغرب

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن الأب يوسف جزراوي

الأب يوسف جزراوي

54

قصيدة

كاهن وباحث/شاعر وأديب عراقي مغترب له العديد من المؤلفات في الشأن الكنسي والأدبي وتاريخ العراق

المزيد عن الأب يوسف جزراوي

أضف شرح او معلومة