الديوان » الأب يوسف جزراوي » في مرايا عينيه صدقٌ

لقد شاهدنا في مرايا عينيهِ صدقًا لم نره مِن ذيّ قبلٍ!
الأب يوسف جزراوي/ رواية
بدأ العزفُ الموسيقي في دار الأوبرا، اُطفئت الأنوار ثُمَّ سُلّطت الاضواءِ على الفرقة الموسيقيّة فقط وسط المسرح، معزوفات بِشكلٍ حيّ على مدار ساعتين.
الأنوار الّتي فوق رؤوس الحاضرين كانت خافتة، كعناقيدِ اللؤلؤ في دوائر حمراء، الأجواء ملأئتهم بالإنتعاش، ضممها إلى صدره ومدّ ساقهُ، تركا جسدهما في حالة استرخاء وانصات، وكيانهما أمتلأ بالدفءِ والأمان.
انتهت الأمسيّة الموسيقيّة ، هبطا إلى الطابق الأسفل في قاعة الاستقبال، تناولا القهوة والمعجنات..، في تلكَ الأثناء تطلع إلى المرآة ِ الكبيرة الّتي تتوسط القاعة وعادة مَا يبدو وجهه خاليًّا مِنَ الأتعابِ في مرايا دور الموسيقى. ...فجأةً شعرت بالدوار وسقطت مغشيّةً عليها. تم نقلها إلى المستشفى أسرع مِن البرق، بعد بضعة أيّامٍ دخلت في غيبوبة وانطفأت شمعة حياتها!!.
لقد انقطعت أنفاسها، وتوقف ذلكَ القلب النقي الواسع الطيبة والمحبّة العامر بِالنقاء... لقد فارقت الحياة وهي تمسك بيده، وكأنّها لا تود فراقه! هل اتعبها حماسُ الحياةِ، فاستقلت قطار الأبديّة إلى العالمِ الآخر بِلا حقائبٍ وبلا مقدماتٍ؛ حيث لا يعود النّاس؟.
أُصيب بِهستريّا وأحسّ أنَّ النّبضَ توقفَ فِي قلْبهِ. لقد خارت قواهُ، وشعرَ بوهنٍ حادٍ، حَتّى بات يرتجفُ كأوراق الشجر فِي أوقاتِ الأعصار!
بغير وعيٍّ انتزع عن وجهِها الجميلُ قناع الأوكسجين وصرخَ باسمها كالمجنونِ، ولم يسمع صدى أنين الفراق سواه!
صمتَ، انتحبَ، بكى... ثُمَّ راحَ يُقبّلها محاولاً أن يمنحَ لها قُبّلّة الحياةِ، ولكنْ مِن دون جدوى!.
لقد أجهشَ بِالبكاء كطفلٍ فقد والديّه أو أحد أطرافهِ...
خرجَ في عجّالة مِن أمرهِ يهيمُ على وجههِ؛ يُنادي الطبيب والممرضاتِ كمن يشحذ الماء في الصحراء: لقد ماتت أنقذوها..، مؤقنًا أنّها لن تعود للحياةِ مُجددًا...
انتحبَ وأخذ يسيرُ في الأورقةِ يصرخُ هُنا وهناكَ، كاخرسٍ تلتهمهُ النّيرانِ، حين عاد إلى موضع رحيلها الأخير، لم يكن بوسعهِ ألَّا ضمها إلى صدرهِ كما اعتاد أن يفعل.
مضتِ الدقائقُ عصيبة وكأنّها الدهر... فشلت كُلّ محاولاتِ انقاذها. نقلوها إلى غرفة الموتى. لم يطق فراقها ولم يقوَ على بعد رحيلها. شيءٌ مَا دفعه للجريّ إلى هُناكَ، تسبقهُ دموغه إليها. يُفتّشًُ عَنها هُنا وهناكَ بينَ الآسرةِ؛ يرفعُ عن وجوه الموتى غطاءهم الآخير، علّهُ يجدها.
بعد أن رفعَ الغطاء الأبيض الّذي يكسو وجهها وجثتها، تمامًا كما فعلَ مع المرحوم أبيهِ في مشفى ابن النفيس ببغداد، جثى على ركبتيهِ يبكي كَطفلٍ فقدَ أباهُ أو كأبٍ ينعي طفلته! هكذا طرقَ الموتُ أبوابه المُحكمةِ، مُعلنًا شماتته، مقتطفًا زهرةً فوّاحةً مِن حديقةِ قلبهِ.
كَان يُحدقُ النّظر إليها ويبكي في سرّه. ضمها بينَ ذراعيه رغم مُمانعة ذويها والمسعفين مِن الكادر الطّبيّ، وقد تبلّل وجههُ بدموعٍ لوعتهِ. نظرَ إلى السّماء، نظرةَ عتابٍ واستسلامٍ، ترجمت وجع روحهُ، نظرة لخصت كُلّ الحكاية، ثُم غاب ببكاءٍ صادقٍ وطويلٍ، أشبه مَا يكون ببكاء كلكامش على صديقه انكيدو!.
لقد باح لي، إنَّها المرّة الأوّلى الّتي ذرف الدّموع وبكى أمامها وعليها وجهًا لوجهٍ، لكنّهُ في هذه المرّة بكى مِن أجلها بسببِ فقدانها.
أمامَ ضريحها المُحاطِ بالورودِ أجهشَ بِبكاءٍ مريرٍ وكأنّه يغسلهُ بالدّموعِ، على وردةٍ قُطفت قبل آوانها. طأطأ رأسه ثُمّ عانقي وأجهش ببكاءٍ بصوتٍ فيه جرجٍ غائر..ثقب قلبي! بكاءٌ أذلهُ وجع الفراق، بنظرات تارةً إلى ضريحها وتأرةً أُخرى إلى السّماء، وكأنّه يرفعُ صوتًا مِنَ الأرض إلى العُلى: ألازلتِ تذكرين من أنا؟!
ربتُّ على كتفيهِ، ولذتُ بصمتي! ولستُ أدريّ، هل خانني الكلامُ أم التّعبير خذلني حينها ؟ أم لأنَّ الصّمتَ أحيانًا في مثل هذه المواقفِ خير كلامٍ!.

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن الأب يوسف جزراوي

الأب يوسف جزراوي

84

قصيدة

كاهن وباحث/شاعر وأديب عراقي مغترب له العديد من المؤلفات في الشأن الكنسي والأدبي وتاريخ العراق

المزيد عن الأب يوسف جزراوي

أضف شرح او معلومة