عدد الابيات : 246
طباعةفِي غُرْفَةٍ بَيْضَاءَ... بَيْنَ جِدَارِهَا
يَنْمُو الصَّقِيعُ، وَيَذْبُلُ الْإِيقَاعُ
جُدْرَانُهَا عَرْجَاءُ، تَبْكِي سَاعَةً
وَتَئِنُّ أُخْرَى... وَالْمَكَانُ خَدَاعُ
أَنَا وَالسَّرِيرُ كَغُصْنِ شَوْقٍ مُحْزِنٍ
يَهْتَزُّ إِنْ مَرَّتْ عَلَيْهِ عِطْرٌ يُذَاعُ
أَنْفَاسِيَ الْمَثْقُوبَةُ اشْتَاقَتْ لِـ
شَمْسٍ تُقِيمُ، إِذَا أَتَى الْإِسْطَاعُ
وَوَجَعِي يُسَافِرُ فِي الشَّرَايِينِ الَّتِي
ضَاقَتْ، وَفِي نَبْضِي تَسِيلُ ضَيَاعُ
وَالْمَوْتُ يَدْنُو مِنْ سَرِيرِي سَاجِدًا
وَالْحُبُّ فِي صَدْرِي لَهُ إِشْعَاعُ
يَا سَارَةً، وَالْقَلْبُ مِنْكِ مُعَلَّقٌ
كَالْوَحْيِ حِينَ يُنَادَ فِيهِ شُعَاعُ
مَا زِلْتُ رَغْمَ الدَّاءِ أَكْتُبُ اسْمَكِ الْـ
مُتَوَهِّجَ الْعِطْرِ الَّذِي لَا يُرَاعُ
فِي كُلِّ نَبْضَةِ عَاشِقٍ مَتْرُوكَةٍ
أَلْقَاكِ... وَالْأَلَمُ الْجَمِيلُ شِرَاعُ
فَإِذَا رَأَيْتِ الدَّمْعَ فِي أَهْدَابِهِ
فَهُوَ اشْتِيَاقِي... مَا بِهِ أَوْجَاعُ
وَإِذْ أَطَلَّتْ، كَأَنَّ صُبْحًا قَدْ مَشَى
فِي مَقْلَتِي، وَاسْتَيْقَظَتْ أَسْقَاعُ
خُطُوَاتُهَا هَمْسٌ عَلَى أَرْضِ النَّوَى
وَكَأَنَّهَا لِلْوَجَعِ وَالْأَلَمِ سَمَاعُ
وَجْهٌ تَلَأْلَأَ فِيهِ سِحْرُ قَصَائِدٍ
أَنْفَاسُهَا، خَنْسَاءُ ... وَالْإِبْدَاعُ
عَيْنَانِ... لَا بَلْ أَلْفُ خِنْجَرِ لَهْفَةٍ
بَغْدَادُ، وَالشَّامُ، وَالْبَيْدَاءُ، قَاعُ
قَدْ كُنْتُ قَبْلَ لِقَائِهَا مُتَقَوِّسًا
كَقَوْسِ قُزَحٍ تَاهَتِ الْأَلْوَانُ
حَتَّى إِذَا مَا زَارَنِي ظِلُّ الضُّحَى
مِنْ مُقْلَتَيْهَا... عَادَ بِي الْإِيمَانُ
سَأَلْتُهَا: "هَلْ أَنْتِ مِنْ جَذْرِ النَّوَى؟
أَمْ أَنَّكِ الْغَيْمُ الَّذِي لَا يُدَانُ؟"
قَالَتْ: "أَنَا عَرَبِيَّةٌ... مِنْ أَرْضِ مَا
تُشْقِي وَتُحْيِي... وَالْمُنَى رَحْمَانُ"
"أَنَا الَّتِي رَسَمَتْ جَدَّاتُ جَدَّاتِي
فَوْقَ الْجِبَالِ جَبِينَهَا الطُّوفَانُ
أَنَا الَّتِي فِي دَمْعَةِ الْكُحْلِ اخْتَبَأَتْ
قِصَصُ الْهَوَى، وَتَوَضَّأَتْ شَفَتَانُ"
فَبَكَيْتُ... لَا وَجَعًا، وَلَكِنْ مُقْلَتِي
قَدْ آنَسَتْ وَجْهًا لَهُ الْعُنْوَانُ
سَارَةُ... تُشْبِهُهَا... وَهَا أَنْفَاسُهَا
تَغْدُو نَسِيمًا فِي الْمَدَى الرَّنَّانُ
فَكَأَنَّهَا فِي حَضْرَةِ التَّكْوِينِ لِي
رَسَمَتْ حُدُودَ اللَّحْنِ وَالْمِيزَانُ
عَيْنَانِ... كَانَ اللَّهُ فِي نُعْمَانِهَا
قَدْ أَرْسَلَ التَّوْرَاةَ وَالْفُرْقَانُ
وَسَأَلْتُهَا: "هَلْ مَرَّ فِيكِ حَنِينُنَا؟
هَلْ لَامَسَتْكِ الذِّكْرَيَاتُ الْجَانُ؟"
فَأَجَابَتِ النَّبَضَاتُ مِنْ شَفَتَيْهَا:
"أَنَا الْهَوَى... وَالْمَوْتُ لِي خُذْلَانُ"
"أَنَا الَّتِي قَدْ عَلَّمَتْنِي أُمِّيَ الْـ
تَّارِيخُ كَيْفَ يُهَانُ أَوْ يُصَانُ
أَنَا الَّتِي فِي هَمْسِ جَدِّي خَبَّأَتْ
كُلَّ الْحِكَايَاتِ الَّتِي لَا تُدَانُ"
يَا رَبِّ، هَلْ طَيْفُ الْحَبِيبَةِ مَرَّنِي
أَمْ أَنَّهَا نَارٌ، وَهَلْ تُفْتَانُ؟
هَذَا الْجَمَالُ يُشَابِهُ الْحَسْنَاءَ لِي
وَلَكِنَّهُ... مَا فَارَقَتْهُ أَشُجَانُ
سَارَةُ... تُبْصِرُهَا الْعُيُونُ إِذَا رَنَتْ
وَلَكِنَّهَا... فِي الْقَلْبِ لَا تُوزَانُ
تِلْكَ... الَّتِي فِي الصَّوْتِ قَالَ هَوَايَ لِي:
"يَا أَيُّهَا الْمَسْكُونُ... مَا كَمَكَانُ"
فَبَكَيْتُ... لَا حُزْنًا، وَلَكِنَّ الَّذِي
فِي الرُّوحِ يُشْعِلُنِي، هُوَ الْخُسْرَانُ
أَنْ تُشْبِهَ الْمَحْبُوبَةَ امْرَأَةٌ بِهَا
كُلُّ الصِّفَاتِ... وَلَكِنَ الْأَزْمَانُ
لَا تُرْجِعُ الْأَنْفَاسَ إِنْ هِيَ غَادَرَتْ
وَلَا يُعِيدُ الصُّبْحَ مَنْ قَدْ خَانُوا
سَارَةُ... مُتَّكِئَةٌ عَلَى وَجَعِي، وَإِنْ
قَامَتْ أَمَامِي... تَخْجَلُ الْأَلْحَانُ
رَأَيْتُهَا... فَكَأَنَّ سَارَةَ أَقْبَلَتْ
مِنْ فَجِّ ذَاكِرَةٍ تَنَامُ... وَتُوهَبَانُ
كَالْعِطْرِ... تُشْبِهُهُ، وَلَكِنْ دُونَمَا
سِرِّ الْخُزَامَى، لَا الْهَوَى... لَا الْحَنَانُ
تِلْكَ الْمُمَرِّضَةُ الْجَمِيلَةُ... وَقَفَتْ
وَاللَّيْلُ يَحْتَشِدُ... وَالْوَجَعُ الْمُتَنَقِّلُ
لَكِنَّ سَارَةَ حِينَ كَانَتْ تَقِفُ
كَانَتْ كَأَنَّ اللَّهَ فِيهَا يُجَمِّلُ
سَارَةُ... يَا نَبْضِي إِذَا سَكَنَ الدُّنَا
وَجْهٌ... إِذَا غَابَتْ وُجُوهٌ يُمَثِّلُ
يَا كُلَّ أُنْثَى خُلِقَتْ مِنْ قُبْلَةٍ
تَشْفِي الْجِرَاحَ... وَتَبْعَثُ الْمُتَبَدِّلُ
كَفُّ الْمُمَرِّضَةِ الْحَنُونَةِ لَامَسَتْ
كَفِّي... فَسَالَ دَمِي، وَهَلْ يُسْتَأْصَلُ؟
سَارَةُ لَمَسَتْنِي... فَكُنْتُ سَمَاءَهَا
وَغَدًا مِنَ الْمُشْتَاقِ فِيهَا يُشْعَلُ
أَوَاهُ... هَذَا الْجِيدُ فِيهَا فِتْنَةٌ
لَكِنْ، وَهَلْ يُشْفَى الْهَوَى الْمُتَلَثِّمُ؟
إِنَّ الْجَمَالَ بِغَيْرِ رُوحِكِ سَارَةُ
كَالْعِيدِ... لَكِنْ دُونَ طِفْلٍ يُنَغِّمُ
هَمَسَتْ... فَخِلْتُ اللَّحْنَ فِي شَفَتَيْكِ
قَدْ عَادَ التَّرَاتِيلَ الَّتِي لَا تُرْجَمُ
لَكِنْ، صَوْتُكِ... حِينَ قُلْتِ "أُحِبُّنِي"
مَا زَالَ فِي صَدْرِي كَنَجْمٍ يُلْثَمُ
مَا بَيْنَ سَارَةَ وَالْمُمَرِّضَةِ الْمَدَى
كَالنَّخْلِ... وَالْفَجْرِ الَّذِي يَتَقَسَّمُ
هَذِهِ تُدَاوِينِي... لِتُبْقِي مُهْجَتِي
لَكِنَّ سَارَةَ وَحْدَهَا... تَتَأَلَّمُ
قَالَتْ: "عُيُونُكَ مَا تَزَالُ تَلُوذُ بِي
لَكِنْ... هُنَاكَ دُمُوعُهَا تُجْفَانُ
وَوَرَاءَ شَمْسِكَ ظِلُّ أُنْثَى غَائِبَةٍ
تَمْشِي، وَتَتْرُكُ فِي الدُّرُوبِ دُخَانُ
تُنْصِتُ إِلَيَّ، وَلَكِنَّ نَبْضَكَ غَائِبٌ
كَأَنَّهُ فِي ضِفَّةٍ سَكْرَانُ
فَمَنِ الَّتِي تَأْوِيكَ بَيْنَ جِرَاحِهَا؟
مَن سَارَةٌ؟ قُلْ لِي... أَمَا تُفْصَحَانُ؟"
تَوَقَّفَتْ أَنْفَاسِيَ الْمُرْتَبِكَاتُ فِي
جَوْفِ الصَّدْرِ... فَانْحَسَرَ الزَّمَانُ
وَغَدَا سُؤَالُكِ جَمْرَةً فِي أَضْلُعِي
وَبَرَاكِنًا تَتَفَجَّرُ الْوِدْيَانُ
يَا رَبِّ، كَيْفَ أُجِيبُ أَنِّي عَاشِقٌ
ضَاعَتْ يَدَاهُ، وَضَاعَ مِنْهُ أَمَانُ؟
وَكَأَنَّ سَارَةَ مَا تَزَالُ بِدَاخِلِي
عِطْرًا يُشَرِّحُنِي، وَأَنَا السُّجَّانُ
سَارَةُ... أَوْهَامٌ تُقِيمُ بِخَافِقِي
إِنْ غَابَتِ الْأُنْثَى، بَدَا الْخُسْرَانُ
هِيَ أَوَّلُ الْأَسْمَاءِ فِي ذَاكِرَةِ الْمَدَى
هِيَ آخِرُ الْأَشْعَارِ إِنْ يُتْلَى الْحَنَانُ
هِيَ لَا تَزَالُ هُنَاكَ، فِي كُحْلِ الْمَدَى
فِي طَيْفِهَا... أَحْيَا، وَفِيهَا أُهَانُ
وَإِذَا نَظَرْتِ إِلَيَّ، فَاقْرَئِي وَجْهِي
كَالنَّصِّ... فِيهِ مَفَاتِنٌ، وَأَمَانُ
لَكِنْ بِدَاخِلِهِ سُؤَالٌ تَائِهٌ
فِي كُلِّ رَمْشَةِ طَرْفِهِ تِبْيَانُ:
"هَلْ يُشْفَى الْمَرِيضُ إِذَا تَذَكَّرَ مَنْ
كَانَتْ لِنَبْضِ الْقَلْبِ فِيهِ كَيَانُ؟"
قُلْتُ: "دَعِينَا مِنْ سُؤَالِكِ، إِنَّهُ
بَابٌ إِذَا فُتِحَ الْهَوَى لَا يُدَانُ
أَخْبِرِينِي، مَا اسْمُكِ؟ إِنَّنِي ضَائِعٌ
فِي ظِلِّ حُسْنِكِ، وَالْمُنَى حَيْرَانُ"
فَابْتَسَمَتْ، وَاهْتَزَّ عَرْشُ تَنَفُّسِي
وَنَضَتْ عَنِ الِاسْمِ الْجَمِيلِ جِنَانُ
قَالَتْ: "أَنَا لَيْلَى، ابْنَةُ السَّهْلِ الَّذِي
تَنْسَابُ فِيهِ قَصَائِدٌ وَغُصَانُ"
لَيْلَى؟ تَأَوَّهَ قَلْبِي الْمَحْزُونُ، بَلْ
جَاءَتْ بِأَلْفِ خُرَافَةٍ تَزْدَانُ
هَلْ أَنْتِ حُلْمُ الْمَجْنُونِ فِي صَحْوِهِ؟
أَمْ أَنَّكِ الْأُسْطُورَةُ النَّشْوَانُ؟
لَيْلَى؟ فَذَاكَ الْحَرْفُ بَرْقٌ نَاطِقٌ
فِيهِ الْمَسَاءُ، وَفِيهِ مَا لَا يُدَانُ
لَيْلَى... وَهَلْ بَعْدَ الْهَوَى مِنْ مَطْلَعٍ
إِلَّا إِذَا عَادَتْ لَنَا الْأَزْمَانُ؟
وَاشْتَدَّ نَبْضِي، وَاسْتَفَاقَ تَوَقُّهُ
كَالْعَازِفِ الْمَنْفِيِّ... حِينَ يُدَانُ
لَمَّا تَلَفَّظَتِ الْحُرُوفُ بِهِ، بَدَا
أَنَّ الْقَصِيدَةَ عَادَهَا الرُّهْبَانُ
لَيْلَى... كَأَنَّ الْحَرْفَ قَبْلَكِ كَانَ
فِي صَوْمٍ، وَفِيكِ تَكَوَّنَتْ آذَانُ
فِيكِ امْتَزَجَتْ سَارَةُ وَالذِّكْرَى
وَفِي صَوْتِكِ ارْتَبَكَ النِّدَاءُ الْعَفْوَانُ
أَهَذَا هَوَاكِ، أَمِ ارْتِحَالُ أُنْثَى
فِيهَا تَشَكَّلَ شَكْلُهَا الْإِيمَانُ؟
سُمِّيتِ لَيْلَى... فَارْتَبَكْنَا مَرَّةً
وَبَدَا لِوَجْهِ الشَّوْقِ أَلْفُ لِسَانُ
قَالَتْ: "تَبَعْنِي... فِي الشُّرْفَةِ الْمَمْدُودَةِ
رِيحُ الشِّتَاءِ، وَلِلْحَكَايَا آنُ"
فَمَضَيْتُ خَلْفَ خُطَا الْمَلَاكِ، كَأَنَّنِي
أَمْشِي عَلَى جَمْرٍ، وَفِيَّ دُخَانُ
كَانَتْ تُشَاهِدُ ضَوْءَ شَمْسٍ شَاحِبٍ
وَأَنَا أُفَتِّشُ فِي الزُّجَاجِ كَيَانُ
فَرَأَيْتُ وَجْهًا... آهِ مِنْ طَيْفِ الْهَوَى
قَدْ لَفَّنِي، وَكَأَنَّهُ الْبُرْكَانُ
سَارَةُ؟ أَأَنْتِ هُنَا؟ أَهَذَا ظِلُّكِ
فِي لَمْعَةِ الزُّجَاجِ؟ أَهَذَا مَكَانُ؟
أَمْ أَنْتِ لَيْلَى، قَدْ لَبِسْتِ عَبَاءَهَا
لِتُعِيدَنِي... حَيْثُ الِتْيَاعٌ وَكَانُ؟
جَسَدِي ارْتَجَفَ، وَمَالَتْ سَاقِي عَلَى
عُكَّازِيَ الْخَشَبِيِّ، وَالْتَفَتَ الْحُزَانُ
لَيْلَى تُنَادِينِي: "أَرَاكَ كَأَنَّمَا
فِيكَ انْشَطَرْتَ... وَمَا نَجَا الْوِجْدَانُ"
فَأَجَبْتُهَا بِصَدَى الْحَنِينِ: "رَأَيْتُهَا
فِي الزُّجْجِ، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ الْآنُ
سَارَةُ… وَكَانَتْ تَسْتَرِيحُ بِوَجْنَتِي
وَتَرِفُّ فِي الْأَهْدَابِ كَالْأَكْوَانُ"
فَقَالَتْ: "هَلْ ذَاكَ الْفُؤَادُ يَشُقُّنِي
أَمْ أَنَّهَا... فِيكِ انْطَوَى الْبُرْهَانُ؟"
فَبَكَيْتُ... لَا وَجَعَ الْجَسَدْ أَنْهَكَنِي
لَكِنْ هَوَاهَا... وَالْهَوَى سُلْطَانُ
يَا شُرْفَةً... كَانَتْ مَزَارَ دُمُوعِنَا
فِيكِ انْطَوَتْ كُلُّ الدُّنَا، وَالْأَمَانُ
هَذَا الزُّجَاجُ، مِرَايَةٌ مِنْ شَهْقَةٍ
سَكَنَتْ يَدِي، وَالرُّوحُ، وَالْوِجْدَانُ
مَدَّتْ يَدَيْهَا، كَيْ تُطْمِئِنَّ خَافِقِي
بِرَاحَةٍ... مَا كَانَ فِيهَا الضَّمَانُ
لَامَسَتْ جِرَاحِي، فَاسْتَفَاقَ جُنُونُهَا
وَتَحَرَّكَتْ فِي دَاخِلِي النِّيرَانُ
يَا لَمْسَةً... كَانَتْ كَأَنْفَاسِ الَّتِي
كَانَتْ تُبَلِّلُ جُرْحِيَ الْعَطْشَانُ
سَارَةُ... أَمَا زِلْتِ تَحْفَظِينَ يَدِي؟
أَمَا تَزَالُ كُفُوفِيَ النِّسْيَانُ؟
كَانَتْ تَلْمَسُنِي، وَتَشْهَقُ صَامِتًا
فِيهَا يَمُرُّ الْحُبُّ، وَالْإِذْعَانُ
وَكَأَنَّهَا... أَنْتِ، وَكُلُّ تَفَاصِيلِهَا
مِنْ ضِحْكَةٍ... لَمْ يَعْرِفِ التِّبْيَانُ
لَمَحْتُهَا فِي صَمْتِهَا، فِي صَبْرِهَا
فِي وَرْدَةٍ بَيْضَاءَ، فِي الرَّجْوَانُ
فِي كُلِّ مَا فَعَلَتْ، وَفِي مَا لَمْ تَقُلْ
فِي رَفَّةِ الْأَهْدَابِ، وَالْوِجْدَانُ
أَبْعَدْتُ كَفِّي عَنْ يَدٍ لَمْ تُخْطِئِ
لَكِنْ بِهَا سَكَنَتْ يَدِي الْأَحْزَانُ
قُلْتُ: "اعْذُرِينِي... فَاللَّمْسُ عَاصِفَةٌ
تُحْيِي رُفَاتًا... مَا لَهُ كَفَنَانُ"
سَكَتَتْ، وَلَكِنَّ الْعُيُونَ تَحَدَّثَتْ
وَغَفَتْ عَلَى أَهْدَابِهَا الْأَحْزَانُ
كَأَنَّهَا فَهِمَتْ... بِأَنِّي عَاشِقٌ
لَا تُسْعِفُ الْأَدْوِيَةُ الْهِيمَانُ
غَابَتْ، وَلَمْ تَخْطُ الْخُطَى... بَلْ إِنَّهَا
قَدْ آثَرَتْ صَمْتَ الْخِتَامِ بَيَانُ
لَيْلَى انْسَحَبَتْ... كَضَوْءِ شَمْعَةِ غَائِبٍ
وَغَفَتْ عَلَى كَتِفِ الْجِدَارِ أَمَانُ
لَا صَوْتَ إِلَّا نَبْضُ قَلْبِي خَائِفًا
مِنْ كُلِّ مَا قَدْ كُنْتُ فِيهِ وَكَانُ
لَكِنَّهَا... يَا لِلْمُفَارَقَةِ الَّتِي
تَبْكِي بِهَا الْأَيَّامُ وَالْأَزْمَانُ
سَارَةُ... أَأَنْتِ هُنَا؟ وَإِلَّا كَيْفَ قَدْ
عَبَقَ الْمَكَانُ، وَطَافَتِ الْأَلْحَانُ؟
صَوْتُكِ فِي الْمِصْبَاحِ، فِي زَفَرَاتِهِ
فِي ظِلِّ سَرِيرِي، وَحِينَ أُدَانُ
فِي كَأْسِ مَاءٍ جَاءَنِي، فَكَأَنَّهُ
نُطْقٌ بِصَوْتِكِ، وَالسُّكُونُ لِسَانُ
فِي كُلِّ رُكْنٍ، أَنْتِ، فِي أَنْفَاسِهِ
فِي شَقْشَقَاتِ الضَّوْءِ... وَالرَّيْحَانُ
مَا بَيْنَ لَيْلَى وَالْمَكَانِ عَلَاقَةٌ
نَسَجَتْ خُيُوطَكِ... فَانْتَهَى الْهَذَيَانُ
أَأَجَنُّ؟ أَمْ أَنَّ الْحَنِينَ حَقِيقَةٌ
تَأْتِيكِ مِنْ حَيْثُ اسْتَرَاحَ الْكَفَّانُ؟
سَارَةُ... أَمَا آنَ الرَّحِيلُ إِلَيْكِ؟
أَمَا تَعُودِينَ؟ اشْتَكَى الْكِتْمَانُ
يَا مَنْ تَسَرَّبْتِ إِلَيَّ كَأَنَّمَا
كُنْتِ الدُّعَاءَ، وَأَنْتِ فِيهِ الْجَانُ
دَلَفَ الطَّبِيبُ إِلَى الْجَنَاحِ... وَكَفُّهُ
تَحْمِلُ النُّسَخَ الَّتِي تَرْوِي الْمَكَانُ
عَيْنَاكَ تَتَرَصَّدْ، وَفِيهَا رَجْفَةٌ
لَيْسَتْ مِنَ الْحُمَّى، وَلَكِنْ... سَرَانُ
"كَيْفَ الشُّعُورُ؟" سَأَلَك. لَكِنَّ الصَّدَى
عَادَ بِسُؤَالٍ غَيْرَ مَا قَدْ كَانُ:
"قُلْ لِي، وَقُلْ... بِالصِّدْقِ: هَلْ لِلْحُبِّ يَا
سَيِّدِي دَوَاءٌ؟ هَلْ لَهُ شُطْئَانُ؟"
شَهِقَ الطَّبِيبُ، فَابْتَسَمْتَ لِدَهْشَةٍ
أَغْفَى بِهَا الطِّبُّ، وَاسْتَفَاقَ الْحَنَانُ
قَالَ: "الْعُلُومُ حُدُودُهَا مُتَحَجِّرٌ
وَالْحُبُّ نَهْرٌ لَيْسَ لَهُ عُنْوَانُ
نُعْطِيكَ مِنْ أَقْرَاصِنَا مَا يَشْتَهِي
جَسَدُ الْكَآبَةِ... هَلْ يُدَاوِي الْآنُ؟
لَكِنْ هَوَاكَ، فَذَاكَ جُرْحٌ دَاخِلِيٌّ
يَعْلُو إِذَا نَادَتْهُ ذِكْرَاكَ شَانُ"
قَالَ... وَمَضَى، لَكِنَّ نَظْرَتَهُ رَنَتْ
فِي الْقَلْبِ... مَا هَذَا؟ وَمَنْ ذَا كَانُ؟
مَا كُنْتُ وَحْدِي، كَانَ وَجْهُكِ سَارَةْ
يَبْكِي مَعِي... وَيَمْسَحُ الْأَشْجَانُ
دَخَلَتْ عَلَيَّ... وَفِي يَدَيْهَا بُشْرَى
وَالضَّوْءُ يَرْقُصُ فِي يَدَيْهَا السَّمْرَا
قَالَتْ: "نَجَوْتَ... وَنِلْتَ مِنْ وَجَعِ الرُّؤَى
مَا قَدْ كَفَى، وَالْيَوْمَ تُغْلَقُ الْمَسْرَى"
ابْتَسَمْتُ... لَكِنِّي تَرَاجَعْتُ الْخُطَى
كَأَنَّ شَيْئًا فِي الْجِدَارِ اسْتَقْرَا
كَأَنَّ سَارَةَ لَمْ تَزَلْ فِي ظِلِّهِ
وَكَأَنَّ أَنْفَاسِيَ، بِهَا مُغْتَرَّا
قُلْتُ: "أَأَرْحَلُ؟ دُونَ أَنْ أُوَدِّعَ الَّذِي
ذَابَتْ بِهِ الْأَيَّامُ وَانْكَسَرَ السِّرَّا؟
أَأَتْرُكُ الْأَنْفَاسَ فِي مِرْآتِهَا
تَرْتَادُنِي... كُلَّ الْمَسَاءِ، إِذَا سَرَى؟"
لَيْلَى حَدَّقَتْ، وَلَمْ تَفْهَمْ هُرُوبِي
مِنْ شُرْفَةٍ مَا زَالَتِ الْأَحْلَامُ تُقْرَى
قَالَتْ: "تَعَالَ، فَقَدْ شُفِيتَ، وَسِرْ بِنَا
فَالنَّبْضُ عَادَ، وَالرَّحِيلُ تَجَرَّى"
لَكِنِّي... مَا زِلْتُ أَبْحَثُ عَنْ مَكَانٍ
سَارَةُ فِيهِ تُظَلِّلُ الذِّكْرَى
عَنْ كُرْسِيٍّ فِي الزَّاوِيَةِ الْيُسْرَى
عَنْ فِنْجَانِهَا... الْمُسَجَّى فَوْقَ ثَرَى
عَنْ ضِحْكَةٍ عَبَرَتْ هُنَا فِي لَيْلَةٍ
وَسَمِعْتُهَا... فَاحْتَرَقَتِ الْمَجْرَا
لَا، لَا أُغَادِرُ... لَا لِشَيْءٍ ظَاهِرٍ
لَكِنَّنِي... مَا عُدْتُ أُجِيدُ الْوَقْرَى
قَالَتْ: "تَقَدَّمْ... لَمْ يَعُدْ فِي الْغَيْمِ مَا
يَحْجُبْ عَنِ الْأَنْظَارِ وَجْهَ غَدٍ أَرَى"
"الْوَقْتُ يَمْضِي، وَالْحَيَاةُ تُنَادِيكَ
وَالشَّمْسُ – حَتَّى الشَّمْسُ – تَرْجُوكَ الْمَسَرَا"
"كَمْ مِنْ شِتَاءٍ مَرَّ فِي عَيْنَيْكَ، فَافْتَحْ
بَابَ الرَّبِيعِ، وَخُذْ بِقَلْبِي الْمُبْصَرَا"
"أَتَعْلَمُ الْآهَاتِ كَمْ تُنْجِبُ ضِيَاءً
حِينَ نُقَابِلُ حُزْنَنَا مُتَجَهِّرَا؟"
فَأَجَبْتُهَا... وَالْحُزْنُ فِي وَجْهِي بَدَا
كَخُيُوطِ صُبْحٍ لَمْ تَجِدْ مَنْ يُنْزِرَا
"يَا لَيْلَى... لَا تَغْتَرِّي بِشَمْسِيَ، فَهِيَ
كَاذِبَةُ الْإِشْرَاقِ إِنْ غَابَتْ سُرَى"
"مَا عُدْتُ أُبْصِرُ غَيْرَ سَارَةَ فِي الْمَدَى
فِي كُلِّ نَافِذَةٍ، وَفِي الْمِرْآةِ جَرَا"
"هِيَ الَّتِي كَانَتْ إِذَا نَادَتْ سُكُونِي
يَنْهَضْ مِنَ الْأَعْمَاقِ صَوْتًا مُذْعَرَا"
"هِيَ الَّتِي، لَمَّا تَعِبْتُ مِنَ الْحَيَاةِ
ضَمَّتْ يَدِي... وَأَعَادَتِ الْقَلْبَ الْقِرَى"
"هِيَ الَّتِي... خَبَّأْتُهَا فِي أَضْلُعِي
كَيْ لَا تُصَابَ بِعَاصِفٍ أَوْ مِنْقَرَا"
"لَكِنَّهَا غَابَتْ... وَغَيْبَتُهَا الَّتِي
أَبْقَتْ فُؤَادِي فِي الْحَنِينِ مُكَبَّرَا"
"فَارْوِي الْحَيَاةَ لِمَنْ يَلِيقُ بِعِشْقِهَا
أَمَّا أَنَا... فَسَأَبْقَى الْأَسْرَ الْمُحَرَّرَا"
"مَا عَادَ قَلْبِي صَالِحًا إِلَّا لَهَا
مَا عَادَ صَدْرِي قَابِلًا أَنْ يُؤَجَّرَا"
فَصَمَتَتْ لَيْلَى... وَالضَّبَابُ بِعَيْنِهَا
يَمْحُو الْمَدَى... وَيُضِيءُ وَجْهِيَ مُجْهَرَا
قَالَتْ: "سَأَمْشِي، إِنْ أَرَدْتَ، إِلَى الْمَدَى
حَيْثُ ارْتَعَشْتَ... وَحَيْثُ غَابَتْ مُهْرَتَا"
"خُذْنِي إِلَى ظِلِّ الَّتِي سَكَنَتْ دُمَاكَ،
عَلَّنِي أُدْرِكْ حَنِينَكَ عَنْ قُرْبَا"
فَمَضَيْتُ... وَالنُّورُ الْخَجُولُ يُرَافِقُ
خَطْوِي، كَأَنِّي فِي الْجَنَازَةِ أُسْتَوَى
زُرْنَا الزَّاوِيَةَ الَّتِي فِيهَا، رَأَيْتُ
طَيْفًا يُغَنِّي، ثُمَّ يَسْقُطُ مِنْبَرَى
وَقَفَتْ هُنَاكَ... وَقَدْ تَجَمَّدَ وَقْتُنَا
عَيْنَايَ تَهْمِي، وَهِيَ تَبْكِي صَمْتَهَا
قَالَتْ: "هُنَا؟ كُنْتَ تَرَاهَا؟" قُلْتُ: "بَلْ
كُنَّا نُصَلِّي، فِي الزُّجَاجِ قُدُسَنَا"
"كَانَتْ إِذَا مَرَّتْ يَدُ الرِّيحِ الْخَفِيفَةُ
تَهْتَزُّ لِي صُورَتُهَا مِنْ وَجَلِهَا"
"وَكُنْتُ، رَغْمَ الْقَيْدِ، أُلْقِي نَبْضَتِي
نَحْوَ الزُّجَاجِ، فَتَلْتَقِطُهُ مِثْلَمَا"
"يَأْوِي الْحَمَامُ إِلَى الشُّبَّاكِ، وَيَسْكُنُ
نَبْضَ الْمَدِينَةِ فِي الْمَسَاءِ، فَيَمْتَلَا"
"كَانَ اللِّقَاءُ هُنَاكَ... لَا كَلِمَاتِ فِيهِ
لَكِنَّهُ أَغْلَى مِنَ الشِّعْرِ الرُّدَى"
فَبَكَتْ لَيْلَى... وَالضَّوْءُ بَيْنَ دُمُوعِهَا
أَسْرَى... كَأَنَّ بُكَاءَهَا مُوسِيقَا
قَالَتْ: "سَأَتْرُكُكَ هُنَا، وَحْدَكَ، مَعَهَا
فَلَعَلَّ طَيْفَكَ يَسْتَرِيحُ قَلِيلَا"
وَمَضَتْ... كَأَنَّ اللَّيْلَ فِيهَا أَسْدَلَا
سِتْرًا عَلَى مَنْ فِي الْحَنِينِ تَخَيَّلَا
وَبَقِيتُ... أُحَدِّقُ فِي الزُّجَاجِ، كَأَنَّهُ
بَابٌ يَفْتَحُ لِلْحَبِيبَةِ مَوْصِلَا
خَرَجْتُ وَمَا بِي مِنْ شِفَاءٍ ظَاهِرٍ
لَكِنْ بِقَلْبِي لَمْ تَزَلْ آهَاتُنَا فِيهَا
خُطَايَ تَمْشِي فِي رَصِيفِ مُشْفًى
لَكِنَّ رُوحِي مَا خَطَتْ فِي الزَّحْفِ حَافِيَهَا
لَيْلَى تُهَنِّينِي، وَفِي صَوْتِي انْكِسَارْ
كَأَنَّ قَلْبِي ضَاعَ فِي نَفَسِ النَّهَافِيهَا
قَالَتْ: "نَهَضْتَ! وَهَا الْحَيَاةُ تُقْبِلُ"
فَأَجَبْتُ: "رُوحِي مَا نَهَضْتُ بِوَافِيهَا"
عَلَى الزُّجَاجِ وَقَفْتُ، أَبْحَثُ نَظْرَتِي
سَارَةُ هُنَاكَ... وَفِي الْعُيُونِ خِلَافِيهَا
صَوْتُ الْمَمَرِّ يَئِنُّ مِنْ وَجَعِ اللِّقَاء
يَا لَيْتَ لَوْ أَبْقَى بِظِلِّ نِدَاهُ خَافِيهَا
هَلْ يُشْفَى الْجَسَدُ إِذَا الْفُؤَادُ مُعَلَّقٌ
بِعُيُونِ أُنْثَى غَابَتِ الْأَصْدَافُ فِيهَا؟
أَنَا لَا أُفَارِقُ غُرْفَتِي، بَلْ إِنَّنِي
مَا زِلْتُ فِي النَّافِذَةِ السَّوْدَاءِ عَافِيهَا
أَمْشِي وَقَلْبِي فِي الزُّجَاجِ مُوَثَّقٌ
هَلْ يُنْقَذُ الْعُشَّاقُ مِنْ ضَعْفِ التَّلَافِيهَا؟
لَيْلَى تُحَدِّثُنِي عَنِ الْبَدْءِ الْجَمِيلْ
لَكِنَّ قَلْبِي لَمْ يُرِدْ... بَلْ كَافِيهَا
خَرَجْتُ... وَالْبَابُ خَلْفِي أَوْصَدُوهُ
لَكِنَّ قَلْبِي لَمْ يُرِدْ أَنْ يَخْطُوَهَا
وَالنَّاسُ حَوْلِي يَبْتَسِمْنَ، كَأَنَّهُمْ
مَا عَلِمُوا أَنِّي تَرَكْتُ الرُّوحَ فِي لُجِّوهَا
"هَنِيئًا"، قَالُوا، "قَدْ شُفِيتَ، وَهَا هُنَا
شَمْسُ الْحَيَاةِ تَعُودُ، فَاغْتَنِمْ فُرْصَهَا"
وَأَنَا أُرَتِّقُ فِي الْخُطَى خُطُوَاتِهِمْ
لَكِنْ عَلَى الزُّجَاجِ... ظِلُّ الصَّوْتِ وَالصَّفَا
رَأَيْتُ نَافِذَةً، هُنَاكَ، عَلَى الْمَدَى
حَيْثُ تَمَعَّتْ دَمْعَةُ اللَّيْلِ، وَانْطَفَأَ
مَا زَالَ وَجْهُ سَارَةَ مَرْسُومًا بِهَا،
مَا زَالَتِ الْأَنْفَاسُ تَلْهَثُ فِي نُدَاهَا
أَيْنَ الْحِكَايَا؟ أَيْنَ عِطْرُ حَدِيثِهَا؟
أَيْنَ الْوَدَاعُ إِذَا الْحُضُورُ تَأَبَّدَهَا؟
خَرَجْتُ... لَكِنِّي تَرَكْتُ يَدِي لَهَا،
وَمَضَيْتُ وَحْدِي، وَالْفُؤَادُ تَقَيَّدَهَا
لَيْلَى تَمْشِي، وَالْحَدِيثُ عَلَى فَمٍ
يَرْجُو اخْتِصَارَ الْحُزْنِ... لَكِنْ عَجَزَهَا
قَالَتْ: "أَنَسِيتَ؟" قُلْتُ: "لَا، بَلْ أَذْكُرُ
أَنِّي عَلَى النَّافِذَةِ... مَا زِلْتُ أَرْقُبُهَا"
يَا كُلَّ نَافِذَةٍ تَمَسَّكِي بِالْبُكَاءِ
لَا تَفْتَحِي وَجْهَ الْحَبِيبِ، فَإِنَّهَا
فِي الْقَلْبِ أَقْرَبُ مِنْ يَقِينِ حَقِيقَتِي
وَأَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ حِينَ أُقَارِبُهَا
قَالَتْ: "هَيَّا نَبْدَأُ الْآنَ الْحَيَاةَ،
بِالْحُبِّ، بِالنُّورِ الَّذِي لَا يَنْطَفِي"
قُلْتُ: "لَيْتَ الْقَلْبَ سَهْلٌ، مِثْلَمَا
تُلْقِينَ أَحْلَامَكِ، فِي كَفِّ الصَّفَا."
قَالَتْ: "هَلْ تَنْسَاهُ؟ قَدْ خَرَجَ الزَّمَانْ
مِنْ غُرْفِهِ، وَشَفَتْكَ حُمَّى الْأَسَى."
قُلْتُ: "وَاللَّهِ، الَّذِي أَبْكَى دُمُوعِي،
أَنِّي تَرَكْتُ هُنَاكَ بَعْضِي، وَالْبَقَا"
"لَيْلَى، أَنَا أَمْشِي، وَلَكِنْ كُلُّ خَطْوٍ
فِيهِ ارْتِجَافُ الرَّاحِلِ الْمُقْتَفَى
أَنَا لَمْ أَخْرُجْ تَمَامًا مِنْ جِرَاحِي
مَا زِلْتُ فِي شُرْفَةِ وَجَعٍ مَا عَفَا."
"مَا زِلْتُ أَسْمَعُ ضِحْكَةً مِنْ صَمْتِهَا،
مَا زِلْتُ أَحْيَا إِنْ تَنَفَّسَ طَرْفُهَا
مَا زِلْتُ فِي الزُّجَاجِ أُفَتِّشُ ظِلَّهَا
وَأَرَى طُيُوفَ الْعُمْرِ بَيْنَ صِبَا وَهَا."
"لَيْلَى، أَعْتَذِرُ... فَقَلْبِي لَيْسَ لِي
قَلْبِي هُنَاكَ، فِي الزُّجَاجِ، مُعَلَّقَا
كُلُّ الْحَدِيثِ عَنِ الْبِدَايَةِ سَابِقٌ
أَنَا فِي وَدَاعِ الْحُلْمِ... مَا زِلْتُ أُبْكِيهَا."
فَصَمَتَتْ... وَالْوَرْدُ فِي عَيْنَيْهَا
ذَبُلَ السُّؤَالُ، وَسَكَتَتْ عَنْ رَغْبَتَا
لَكِنَّهَا قَالَتْ بِلَحْنٍ نَاعِسٍ:
"ابْقَ كَمَا شِئْتَ، وَأَنَا... أَبْقَى لَهَا."
لَيْلَى تَمْشِي... لَا تَقُولُ، وَلَا تُرِي
غَيْرَ الظِّلَالِ... تُفَتِّشُ الْوِجْدَانَا
وَجْهُ الْمَدِينَةِ قَدْ تَغَيَّرَ فَجْأَةً
كَأَنَّهَا لَيْسَتْ كَمَا عَرَفَانَا
وَأَنَا أَمْشِي، وَقَلْبِي فِي خُطَاهَا
يَصْمُتُ، لَكِنْ دَاخِلِي بُرْكَانَا
تَسْأَلُنِي الْأَرْصِفَةُ الْمَنْسِيَّةُ:
أَمَا وَجَدْتَ الْآنَ مَنْ تَنْسَانَا؟
لَكِنَّ شَيْئًا دَاخِلِي لَا يَنْثَنِي،
شَيْءٌ يُعِيدُ إِلَيَّ مَا كَانَا
هُنَاكَ، حَيْثُ الْتَقَتْ بِي أَوَّلَ مَرَّةٍ
سَارَةُ... وَالْعِطْرُ وَالْإِيمَانَا
كَانَتْ تُطِلُّ عَلَيَّ مِنْ نَافِذَةٍ
كَأَنَّهَا نَجْمٌ يُطِلُّ عَيَانَا
فَارْتَبَكَ الْعُمْرُ الْجَمِيلُ بِكَفِّهَا
وَسَكَتَّ، لَا طَاقَةَ لِلْكَلَامِ، بَيَانَا
قَالَتْ: "أَنْتَ الْغَرِيبُ بِقَلْبِهِ وَطَنٌ
أَأَطْرُقُ الْبَابَ أَمْ أُبْقِي الْأَمَانَى؟"
قُلْتُ: "ادْخُلِي، فَالنُّورُ أَنْتِ، وَأَنْتِ لِي
ضَوْءُ الْحَكَايَا، وَالْحُرُوفُ حَنَانَا"
وَمُنْذُهَا، قَدْ صَارَ ظِلُّ حَدِيثِهَا
يَمْلَأُ سَمَاءَ الْقَلْبِ وَالْأَزْمَانَا
قَدْ غَيَّرَتْ كُلَّ الْجِهَاتِ بِكَفِّهَا
وَبَقِيتُ مِنْ بَعْدِ النَّدَى ظَمْآنَا
كُنَّا عَلَى دَرْبِ الْفُرَاقِ وَقَفْتُهَا
وَلَيْلَى تُنَادِينِي: "أَلَا يَكْفِي أَسَى؟"
قَالَتْ: "سَلَكْتَ الدَّرْبَ وَحْدَكَ بَاكِيًا
فَهَلْ آنَ لِلْقَلْبِ الْمُعَذَّبِ أَنْ يَسَى؟"
"أَأَظَلُّ ظِلًّا فِي ظِلَالِ غُيُومِهَا؟
أَمْ أَنَّنِي وَهْمٌ تَلَاشَى وَانْمَحَى؟"
فَأَجَبْتُهَا: "يَا مَنْ سَكَنْتِ رُؤَايَ
وَفِيكِ شَيْءٌ مِنْ سُكُوتِ الْأُمْنِيَا"
"أَنَا لَا أَهْوَى الْخُطَى إِلَّا لَهَا
وَلَا أَرَى فِي غَيْرِ سَارَةَ مَأْمَنَا"
"هِيَ الَّتِي إِنْ نَامَ جُرْحِي، أَيْقَظَتْ
فِي مُهْجَتِي وَجَعًا، يُعَلِّمُنِي الْبُكَا"
"هِيَ الَّتِي لَمَّا أَضَعْتُ يَقِينَهَا
كَانَتْ دَلِيلَ الرُّوحِ حِينَ تَنَكَّرَا"
"مَا زِلْتُ أَرْجُو أَنْ تَعُودَ يَدُ الْهَوَى
مِنْهَا، وَلَوْ فِي الْحُلْمِ... لَوْ وَهَمًا أَتَى"
فَاسْتَدَرْتُ، وَلَيْلَى تَنْحَنِي فِي صَمْتِهَا
كَالْأَرْضِ حِينَ تَسَاقَطَتْ فِيهَا السُّنَا
وَغَفَوْتُ أَمْشِي نَحْوَ ظِلِّكِ يَا مُنَى
وَالْقَلْبُ خَلْفِي... يَرْكُضُ، وَيَرْتَجَى
كُنَّا عَلَى مُفْتَرَقِ الْأَشْيَاءِ نَقِفُ
لَيْلَى إِلَى جَانِبِي، وَالضَّوْءُ يَخْفُتَا
قَالَتْ: "أَهَذَا الدَّرْبُ دَرْبُكَ؟ أَمْ تَرَى
مَا زِلْتَ تَرْقُبُ مَنْ سَيَرْجِعُ صَوْتُهَا؟"
صَوْتُهَا نَاعِمٌ، كَأَنَّ بِهِ الْحَنِينَ
لَكِنَّهُ أَيْضًا يُخَبِّئُ مَوْتَهَا
قَالَتْ: "سَئِمْتُ صِرَاعَكَ الْمَنْفِيَّ فِيكَ
أَلَا تَرَاكَ تَعُودُ دَوْمًا لِذَاتِهَا؟"
صَمُتُّ... وَكَانَ الصَّمْتُ سَيْفًا فِي دَمِي
وَالصَّوْتُ يَرْتَجِفُ ارْتِجَافَ سُكُوتِهَا
نَظَرْتُ فِي عَيْنَيْهَا، فَلَمْ أَلْقَ الَّذِي
يُطْفِئُ اشْتِعَالَ الْحَرْفِ فِي تَابُوتِهَا
قُلْتُ: "أَنَا إِنْ مَشَيْتُ، فَدَرْبِي مُوحِشٌ
وَخُطَايَ تَرْجُفُ إِنْ نَسِيتُ وُجُودَهَا
أَنَا لَا أَبْحَثُ عَنْ يَدٍ تُمْسِكُنِي
أَنَا أُرِيدُ يَدَ (سَارَة)... وَلَمْسَتَهَا"
"هِيَ الَّتِي إِنْ مَسَّتِ الْجُرْحَ اكْتَسَى
وَرْدًا، وَصَارَتْ لَحْظَةُ الْآهِ نُطْفَتُهَا
هِيَ الَّتِي إِنْ غَابَتِ الْأَنْفَاسُ عَنِّي
كَانَ اسْمُهَا فِي الْحَلْقِ آخِرَ نُطْفَتَا"
وَاسْتَدَرْتُ... وَلَيْلَى تَصْمُتُ بَاكِيَةً
تَشْهَدُ اخْتِيَارِي، وَتُخَبِّئُ صَدْمَتَهَا
أَرْحَلُ... وَأَعْرِفُ أَنَّ دَرْبِي هَالِكٌ
لَكِنْ يَدِي لِسَارَةٍ... هِيَ وِجْهَتُهَا
فِي الْحُلْمِ، يَا سَارَةُ، الْتَقَتْنَا فَجْأَةً
كَأَنَّنِي مَا مُتُّ، مَا غِبْتُ، مَا نَأَى
كَأَنَّنِي فِي لَحْظَةٍ قَدْ بُعِثْتُ مِنْ
قَبْرِي إِلَيْكِ، وَزُرْتُ مَا كُنْتِ الرُّجَى
ضَمَمْتُ وَجْهَكِ وَالْحَنِينُ مُزَلْزِلٌ
وَالدَّمْعُ يَنْسَابُ احْتِرَاقًا خَفِيَّا
وَقُلْتُ: "يَا عُمْرِي الَّذِي ضَيَّعْتُهُ
بَيْنَ الْوُجُوهِ، وَبَيْنَ أَبْوَابِ الْجَفَا"
"هَلَّا رَجَعْنَا؟ لَا زَمَانَ يَفْصِلُ
مَا بَيْنَنَا، لَا وَقْتَ بَعْدُ وَلَا دُجَى"
"نَبْنِي مِنَ الْأَنْقَاضِ بَيْتًا عَاشِقًا
نُشْعِلُ فِي أَطْرَافِهِ نَارَ الرُّؤَى"
"وَنَسِيرُ فِي شَمْسِ الْبِلَادِ وَظِلِّهَا
فَالْعُمْرُ يَكْفِينَا، وَلَوْ صَارَ نَوَى"
"أَرْوَاحُنَا الْمَكْسُورُ فِيهَا لَمْ يَمُتْ
إِنَّ اللِّقَاءَ دَوَاؤُهَا، وَالْمُرْتَجَى"
"دَعْنِي أَرَاكِ كَمَا تَمَنَّتْ مُهْجَتِي
وَأَضُمُّ كَفَّكِ... لَا فِرَاقَ، وَلَا أَذَى"
"أَبْقَى مَعَكْ، وَالْكَوْنُ يَكْتُبُ عُمْرَهُ
مِنْ نَظْرَتَيْكِ... وَتَبْتَدِي الْبُشْرَى سَنَا"
فَابْتَسَمَتْ... وَسَرَى الْعَبِيرُ عَلَى الدُّنَا
كَالْعِيدِ... قَدْ عَادَ الْهَوَى وَتَجَلَّى
وَهَمَسْتُ: "يَا سَارَةُ، دُومِي نَجْمَتِي
فَالْعُمْرُ أَنْتِ، وَإِنْ تَبَدَّدَ أَوْ فَنَى"
104
قصيدة