ذاتَ مساءٍ أمريكي شتويّ/ وبينما كَانَ المَطَرُ ينْهمرُ فِي شوارعِ مدينةٍ بحريّة استطيبُها/ جلستُ في مكتبةٍ قصدتُها للمرّة الأوّلى/تستيقظُ قبلَ العصافيرِ وتغوُ مَعْ الغسقِ الغافيَّ/ ولا أدري لماذا ظلّتِ النّادلة تختلسُ النّظرات إلى وجهي كمن يُقلّب كتابًا...!/ وجهها لا أعلم أينَ رأيتهُ مِن قبل؟!!/ كانت نظراتها مصوّبة نحوي/ كُلّما مددتُ يديّ ببرودةٍ أعصابٍ إلى حقيبتي وأخرجتُ نظارتي أو قلمًا وورقةً../ أو كُلّما اِنحنت لتلتقطَ شيئًا سقطَ مِنها!/رغمَ إنّي عندما أكتبُ لا أحبذُ أن أفتحَ قلْبي للقارئِ كالنافذةِ.
فِي هذي المقهى الأدبي التي تعجُّ بالكتبِ وأقراص الموسيقى والانتيكاتِ/ لم تخُلد حكايات اغترابٍ أو كتابات عشقٍ لأدباء أو مغامرات شعراء أو بحارة أو رحالةٍ!/ لم يتبادل فيها المُتنبي أطراف الحديث مع سواه/ ولم يكتبْ فيها جبران أو ينشر فيها نُعيمة أو قرأ فيها الحجّار/ومَا أرتادها الجواهري البتةَ / ويقيني لم يسمع عنها السّماوي أيضًا/ ومّا جلس على مقاعدها السياب وابي نؤاس/ولا تصفح كُتبها بورخيس أو كتبَ في شأنها القباني/ولا عزف فيها جيوفاني وبيكاسو/ولا انتشت بطعمِ قهوتها فاطمة ناعوت/ ولا "بشكولاتها" اليخاندرا أو نوال السعداوي/لم ارَ فيها أيُّ جداريّة ٍ لجواد سليم أو لوحةً لفان غوغ...أو كتابًا للجزراوي!
كانتِ النّادلةُ تتطلعُ إلى عيوني مِن وراءِ نظارةٍ ( جعب بطل) كما نقول في لهجتِنا العراقيّة/ وكأنّها تنظرُ إلى نظافةِ قلبي كمن أنطفأ في مُقلتيها البصيصُ/ كحمامةٍ تلقي بِنظراتِها إلى عصفورٍ مِن وراءِ قفصها!/ نظرةٌ لها شذى وجدِ سنبلةٍ جميلةٍ تتلوى في الرّيحِ/ كنتُ اتشاغلُ عنها بِما يُشغَلُني/ ولكنْ تلكَ النّادلة الّتي كانت ترتدي قميصًا أبيضًا وربطةَ عُنقٍ سوداء/ عندما وقعَ على مسامعِها قههقات ضحكي وأنا أحدقُ في " الفاتورةِ"/ نظرت إلى قميصي الأسود وباحتِ بالقولِ:/"أنَا أكثرُ حُزنًا مِنّكَ"!.
كَانَ فِي هسيسِ أنفاسِها صدى آهٍ!!/ وعلى غيرِ العادةِ اِنسِلّيتُ إلى قُبالةِ المبنى بخطوةٍ تسبقُ الأُخرى/ هُنالكَ لم أجدْ عربة لبن أو فلافل فالح أبو العمبة/ ولا عربات تحوي قدر حمصٍ وباقلاء أو الشلغم/ بل رجلٌ مكسيكي يسرحُ بِعربةٍ/ يبيعُ اذرةً مِسلُقوة بالبصلِ والشّطة/ ومتسوّلةٌ حسناء تمدُّ يديها لله أمام مرأى المارة/
وبينما أنَا أجودُ عليها ببعضِ الدولارات/ خشيتُ مِنْ دمعةٍ فِي عينيها قَد تَتمادى بِالمطرِ/ تسألتُ: يَا رّباه، لو لم تكنْ بِهذا الحُسنِ هل يغمس المارّةُ نقودهم في صحنِ أنوثتها؟ وماذا ستفعل بِالمالِ آخر النهار؟!.
لقد مضيتُ في دربي إلى محل سكني في الكنيسةِ/ وظلّت ثمّة نظرات مُسّمرةُ نحوي لِتماثيلٍ همستُ في أذنِها هُناكَ:أينَ الذين صفقوا لكم وهتفوا :" يحيا ويعيش...بالرّوحِ بالدمِ نفديكَ يَا...الله... الله.. أعد على مسامعنا"؟!.
عندما دفعتُ الـ ( TIB) للنادلةِ انتعشت كوردةٍ يابسةٍ تمْ سقيها!/علمًا أنَّ القهوةَ لم تكن على مرامِ مذاقي!.
وكذلكَ تلكَ المتسوِّلة ( جميلةُ الجميلاتِ) الّتي خطّت على "كارتونةٍ" عبارة :" إيُّها الرّبُّ تعال نتحاسب!".
قد فاتني أن أسائلها عن مغزى عبارتها؟!/ هكذا عاهدتُ نفسي أن أصوّرها بعدسةِ قلمي وهكذا كاَنَ.