ورميت رأسي في يدي ما تنفع الشكوى، وشعرك جف بالشعر الخيال وكأن رأسي في يدي روحي مشقشقة بها عطش شديد للجمال وعلى الشفاه الملح واللعنات والألم المحنط بالهزال وكان رأسي في يدي ساقاي ترتجفان من جوع ومن عطش ومن فرط الكلال وأنا أفتش عن ينابيع الجمال ... وحدي بصحراء المحال ... بسراب صحراء المحال ... بسموم صحراء المحال أنا والتعاسة والملال وكان رأسي في يدي والمركبات تهزني ذات اليمين أو الشمال والمركبات تغص بالنسوان واللغط الشديد وبالرجال وكان رأسي في يدي ما زال يقذفني اللعين كأنه الغربال من أقصى اليمين إلى الشمال وبقلبي الأمل المهشم والحنين إلى الجمال والوحشة الغرّاء والنور المكفن بالطلال وخلو أيامي ورأسي في يدي
ورفعت رأسي من جحور كآبتي وأدرت عيني في المكان وكنت أنت قبالتي عيناك نحوي تنظران عيناك... وأخضر المكان وتسمرت عيناي في عينيك ما عاد المكان أو الزمان !! عيناك بسْ ومسكت قوس كمانتي عيناك إذ تتألقان عيناك من عسل المفاتن جرتان عيناك من سور المحاسن آيتان عيناك مثل صبيتين عيناك أروع ماستين هذا قليل عيناك أصدق كلمتين عيناك أسعد لحظتين هذا أقل عيناك أنضر روضتين عيناك أجمل واحتين ما قلت شيئاً عيناك أطهر بركتين من البراءة نزل الضياء ليستحم بها فألقى عند ضفتها رداءه الفتنة العسلية السمراء والعسل المصفى والهناء وهناك أغرق نفسه عجز الخيال عيناك فوق تخيلي فوق انطلاق يراعتي فوق انفعال براعتي عيناك فوق تأملي ومضيت مأخوذاً وكنت قد اختفيت من أنت؟ ما اسمك يا جميل؟ وكنت من أي الكواكب قد أتيت وقد اختفيت
ما زلت تملأ خاطري مثل الأريج كصدى أهازيج الرعاة تلمه خضر المروج كبقية الحلم الذي ينداح عن صبح بهيج ومضيت مأخوذاً وكنت قد اختفيت ومضت ليالٍ كالشهور فما ظهرت ولا أتيت وأنا أسائل عنك في الليل القمر وأنا أفتش في ابتسامات الرضا... لك عن أثر في كل ركن سعادة لك عن أثر في كل نجم خافق في كل عطر عابق في كل نور دافق لك عن أثر حتى لقيتك أنت تذكر في ضحى من غير ميعاد وغير تعمد ولمحت وجهك فجأة وظللت مشدوهاً بهول المشهد وتزلزلت روحي ونطَّ القلب يهتف صائحاً هو نفسه... هو نفسه وتفتَّح وكأن ليلاً أصبح ووقفت في أدب وفي فرط احتشام ومددت كفي بالسلام لكن كفك في الطريق ترددت وتعثرت وامتد في عينيك ظل توجس وكأنما كفي حرام وكأنما قتلت حسيناً، أو رمت بالمنجنيق قداسة البيت الحرام لكنني لم أنبس وخنقت في صدري كلام وحبست في حلقي ملام ومضيت مغتاظاً أضمد مهجتي ألم من فوق التراب كرامتي وأسب يوماً كنت تجلس أنت فيه قبالتي
ولكم دعوتك.. كم دعوتك بيد أنك لم تلبي ما زلت تخشى أن ترى نوري وتغرق نورك الوضاح في أرجاء قلبي وتخاف لمس أناملي وتخاف قلبك أن يجيب، تخاف من خطوات حبي لك ما تشاء!!.. فلسوف أغلق جنتي ولسوف أطفئ نورك الخابي وأوقد شمعتي ولسوف أطرد طيفك المغرور أنفيه لأقصى بقعة ولسوف أتركه لتنهشه مخالب غضبتي وألمّ من فوق التراب كرامتي وأسب يوماً كنت تجلس أنت فيه قبالتي
حتى لقيتك أنت تذكر من جديد في ذلك الركن القصي بذلك البلد البعيد إذ جئت تخطر نحونا وكان وجهك يوماً عيد ماذا يريد؟ وهفا الفؤاد... هفا؟ فقمت نهرته ... وهتفت ما شأني به وزجرته وذكرت أنك طالما عذبته وأهنته ولويت رأسك يا عنيد وأتيت مبتسماً وفي عينيك ألوان الحنان ماذا هناك؟ ومددت كفك بالسلام لا لم تعد تلقي يداه الاتهام وتقول كفاه بأن يدي حرام لا لم يعد ودفنت في أرجاء كفك راحتي وضممتها... وضممتها ورميت قلبي في ذراعي بهجة وحمدت يوماً كنت تجلس أنت فيه قبالتي
صلاح أحمد إبراهيم (1933–1993)
شاعر ودبلوماسي سوداني بارز، وأحد رموز مدرسة "الغابة والصحراء"، ومن المجددين في الشعر العربي المعاصر.
وُلِد في مدينة أم درمان، السودان، في أواخر شهر ديسمبر من عام 1933م.
تخرّج ...