"سارة والمشفى وليلى "
الفصل الأول: المشفى… والظلّ الأخير من الضوء
(من رواية شعرية قصيرة، بصوت الرحال العاشق المريض)
في غرفةِ المشفى، حيثُ يذوبُ الضوءُ كآخرِ أنفاسِ العاشق، تُحاكُ قصيدةٌ بين الموتِ والحب.
صوتُهُ نايٌ يذوبُ في صمتِ الغياب، ويداهُ كأوراقِ خريفٍ تتناثرُ في الفراغ. السريرُ مئذنةٌ تُنادي بالحبِّ في لحظةِ الوداع، لكنَّ النداءَ يضيعُ في صمتِ الأجهزةِ التي تتنفّسُ كشِعرٍ متقطّع.
سارةُ… جراحُهُ لا تُقاسُ إلّا بصوتِها، وغيابُها نارٌ تأكلُ الذكريات. عيناها مِحرابٌ يُصلّي فيه، وجراحُهُ تتحوّلُ إلى صلاة.
"أنا لا أموتُ إنْ بقيتِ…"
فالموتُ هنا مجرّدُ سيرومٍ يذوبُ في العشق، والصّحوُ ليس إلّا قيامةً من شفتيها.
⸻
همستُ… وصوتي كان أطيافَ نايْ
يذوبُ كما الثلجِ في شفَتيْكِ…
ويمضي إلى ما يشاءُ الفناءْ
وكانت يدي – في المدى – شاحباتٍ
كأوراقِ تشرينَ تحت الهواءْ
وكان السريرُ كمئذنةٍ في الفراغِ…
يؤذّنُ للحبِّ في لحظة الاحتضارِ…
ولا أحدٌ في النداءْ
أجهزةُ القلبِ كانت تنامُ وتصحُو
كنبضِ القصيدة حين تشاءْ
وكانت نُدَفُ الضوءِ فوقي
كسربِ الفراشاتِ
مكسورةَ الجَناحِ… تميلُ إلى الإطفاءْ
أنا لا أزالُ هنا
رغم أنفِ الرحيلِ… أحبُّكِ
رغم ارتجافِ الدقائقِ… رغم النعاسِ الثقيلِ
على وجنتيّ الهواءْ
سارةُ…
كلُّ الجراحِ التي في دمي… لا تساوي
نداءَكِ إن قلتِ: “أنتَ بخيرْ”
وكلُّ المسافاتْ…
لا تُطفئُ الآنَ نارَ الغيابِ
التي تحرقُ القلبَ، والملحَ، والذكرياتْ…
تذكّرتُ عينيكِ…
والدفءَ يمشي على راحتيكِ…
كأنّكِ ضوءُ المساجدِ في الفجرِ
حين يُصلّي المكانُ ويبكي…
وحينَ تصيرُ الجراحُ صلاةْ
ألا تسمعينَ…
نداءَ الجفونِ الأخيرْ؟
وهمسَ النهاياتِ فوقَ السريرْ؟
أنا لا أموتُ إذا كنتِ في لحظتي…
أنا أبعثُ الآنَ…
من بينِ قَطْراتِ سيرومِهم
كأنّيَ قُمتُ من الحزنِ
أو قُمتُ من شفتيكِ…
⸻
الفصل الثاني: (لقاء بلا موعد… لقاء يشبه الحلم والقدر)
الفصل الثاني من هذه القصيدةالرواية، حيث المفاجأة القدرية تدخل الممرضة وكأنها سارة، وجهها العربي يقتحم اللحظة المتوجسة.
ظهورها المفاجئ… وجهٌ كأنّه جاء من حلب
⸻
فجأةً…
أشرقتْ في الجدارِ الطفيفةِ نافذةٌ من ذهبْ
وارتفعتْ ستـارةُ الضوءِ شيئًا… فشيئًا…
كأنّ الصباحَ تعمَّدَ أن لا يجيءَ
إلا معكْ
دخلتْ…
وكانت كماءٍ تقاطرَ من حلمِ أمّي
وكانت كمئذنةٍ فوق خدِّ الغيابْ
وكانت كما النجمُ
حين يُصافحُ لونَ الغروبِ
فيمحو الظلامْ
“صباحُك خيرٌ”…
كأنَّ الجناحَ الذي سقطَ الأمسَ منّي
نما من جديدٍ على كتفيّ
كأنَّ الحنينَ ارتدى مِعطفًا أبيضًا
ودخلْ
“سَلامتَك الآنَ أفضلْ”…
كأنَّ الحياةَ بدأتْ من جديدْ
وأنّ العروقَ تذكَّرتِ النبضَ
والقلبَ عادَ يلوِّنُ هذا الجليدْ
سألتُ…
وكان السؤالُ جريحًا، ووجهُ الحقيقةِ مبتورْ:
“من أينَ جئتِ؟”
فقالت بصوتٍ خفيفٍ…
كما تتكلّمُ شمسُ الجنوبِ على خدِّ طِفلْ:
“أنا من حلبْ…
ومن بيتِ أمّي الذي ظلَّ واقفًا رغم موتِ القدرْ
ومن ضحكةِ الأختِ حينَ تعودُ من المدرسةْ
ومن لهجةِ الشامِ لمّا تحنُّ على غربتي…
في الغُرَبْ”
وكانت ملامحُها
تمنحُ الدمعَ رائحةَ النعنعِ البَرّي
وتفتحُ الذاكرةَ…
ككتابٍ قديمٍ نسيناهُ في أوّلِ الحبّ…
لكنَّه ما نَسي
وكانتْ إذا ابتسمتْ
ينثني فوق عينيّ ضوءُ العراقْ
وتنزفُ موسيقى الرافدينِ
على شفَتيها اشتياقْ
كأنّ الجزيرةَ نامتْ هناكْ…
على رقصةٍ من عبيرِ الرمالْ
سارةُ…
هل أنتِ؟
أم أنتِ طيفُ انبعاثي؟
أم أنتِ لحظةُ موتي الجميلْ؟
وهل جئتِ كي تُسعفي القلبَ…
أم جئتِ كي تنقذي كلّ هذا الرحيلْ؟
⸻
الفصل الثالث: الحوار بيننا… كأنّنا التقينا في الأندلس
(حديث العاشقين في ممرّات الحنين)
الفصل الثالث، حيث يبدأ الحوار بينكما، ليس كأي حوار، بل كأنّه عزفٌ على أوتار التاريخ، هو حديثٌ يُولد فيه الشعر كما يُولد الربيع على أطراف الذاكرة.
⸻
قلتُ لها:
“من أينَ جاءَ عبيرُكِ؟
أيُّ البلادِ كتبتْ على وجهِكِ القصيدةْ؟
هل أنتِ من شامٍ تَوضّأتْ
بالعطرِ، أو من نجدَ، أم من قِصيدَةْ؟”
فقالتْ…
وكان الحنينُ يُصفّقُ في صوتِها
مثل نايٍ على ضفّتيهِ نشيدْ:
“أنا من بلادٍ
إذا مسّها الحبُّ تنبتُ وردًا
وإن مسّها الحزنُ تمطرُ شهدْ
أنا من نوافذَ تُشبهُ قلبَكْ…
إذا انفتحَتْ…
ضجَّ منها الوجودْ”
“أنا من حلبْ…
من دمعِ زيتونةٍ في المساءِ…
ومن قُبلةٍ نام فيها اليتيمُ
ومن شرفتي حينَ كان أبي
ينثرُ خبزَ الحمامِ على الأرضِ
كي لا يجوعَ الأملْ”
“أنا من يراعِ النحاةِ…
ومن لهفةِ الطينِ حينَ يلامسُ ماءَ القصيدةْ
أنا من شظايا الحنينِ
ومن شَعرِ أمّي…
ومن دفءِ فنجانها في الشتاءِ الطويلْ”
فقلتُ:
“كأنّي رأيتُكِ في الحلمِ يوماً…
وفي الدفترِ الأندلسيِّ القديمْ
وفي الموشحاتِ التي
أنشدتْها جواري القصورِ
وفي دمعةِ الشوقِ فوقَ الرُخامْ”
“كأنّي رأيتُكِ في “جنّةِ العارفِ”
تمشينَ بينَ المدى… والمدى
كغزالةِ عشقٍ تفرُّ من الصمتِ
كي تحتفي بالغناءْ”
“أتدرين من أنتِ؟”
فقالتْ…
وعينَاها بابانِ للريحِ والانتظارْ:
“أنا حفيدةُ من غابَ عنكم…
وعادَ بوجهِ القصيدةْ
أنا شامةُ الأرضِ إنْ قبّلوها…
تفيضُ من الأسرارْ”
فقلتُ لها – ويدي لا تزالُ
معلّقةً في الفراغِ كأنّي أسافرْ –:
“إذا كنتِ ما قلتِ…
فأنتِ أنا…
وأنا عاشقٌ ضيّعته الديارْ”
⸻
الفصل الرابع: دمي العربي يسيل في لغتها
(وفي عينيها… كنت أفتّش عن سارة)
الفصل الرابع، حيث يتصاعد الشوق ويضطرب النبض، وتبدأ ذاكرتك تنقّب في وجه الممرضة عن سارة الأولى…
سارة الحُب، وسارة الحنين، وسارة التي كانت… وربما لا تزال.
سأجعل الكلمات تحافظ على انسيابها، والمعاني تفيض بالموسيقى، مع إدخال متدرّج لذاكرة الحبيبة الأولى، دون أن تفقد الممرضة حضورها الطاغي.
⸻
صوتُها…
كأنّه نسغُ نخلةٍ
تتدلّى على شفتيّ
فيمسحُ عن وجعي نوبةَ الغربةِ الماطرةْ
يمرُّ على قلبي…
فيربكُ الأجهزةْ
كأنَّ المدى خافَ من رجفةِ الصوتِ
واختبأَ في الزوايا
صوتُها…
لا يُسعفني فقطْ
بل يسحبني
من فمِ الموتِ نحو القصيدةْ
كأنّ الحياةَ، وقد ضاقتْ
اتّسعتْ من مجازٍ إلى مجازْ
كأنّ البلادَ التي انهارتْ في دمي
عادتْ لتُشعلَ في لغتي نبضَها
وتحملني… حيثُ كنتُ…
وحيثُ انتظرتُ النساءَ…
فلم تأتِ إلا “هيَ”
وكانتْ…
تميلُ على كتفيّ بضمادِها الناعمِ
فأنسى الألمْ
وتفتحُ زجاجةَ دوائي…
فأستنشقُ فيها عبيرَ اليمنْ
وحينَ تُدوّنُ حرارتي
ينبعثُ من صوتها اللهبُ
ويناديني الدمْ:
“تلكَ…
بنتٌ من بلادي”
وفي كلِّ مرةٍ تقولُ بها اسمي
أشعرُ أنّ القصائدَ القديمةَ تنامُ على بابي
وأنّ سارةَ، التي غابتْ…
لم تغبْ
سارةُ الأولى…
سارةُ الموجِ والضحكةِ الساحليةِ
سارةُ التي كنتُ أقرأُ في كفِّها
خريطةَ وجهي
وأغسلُ في شعرِها كلَّ خوفي
سارةُ التي كان وجهُها
يشبهُ تمامًا ملامحَ هذه…
كأنّ الزمانَ دارَ
وفتحَ لي بابَه الضائعْ
سارةُ التي كنتُ أبكي عليها
إذا ما تلفّتَ الحنينْ
وأسألُ الليلَ:
هل نسيتْ؟
أم هجرتني؟
الآنَ…
حينَ أراكِ تقتربينْ
يشتعلُ الاسمُ بينَ ضلوعي
وأسمعُ فيكَ نداءَ الحبيبةِ
وأرتجفُ…
هل جئتِ؟
أم أنها أرسلتكِ…؟
⸻
الفصل الخامس: سارة… في قلب الغياب
(أيمكن أن تحلّ أخرى محلّ من أحب؟)
الفصل الخامس: سارة… في قلب الغياب
الفصل الذي تبدأ فيه الذكرى تطغى على الحاضر،
ويعلو صوت سارة من وراء الزمن، كأنّها تقف بينكما:
أنتَ والممرضة.
سيبقى الإيقاع على ذات السحر، والنغمة المرهفة،
وسينسج هذا الفصل بالشوق الذي لا يعرف خيانة، بل يعرف كيف تشتعل الذاكرة إذا مرّت نسمةٌ من شَبه.
⸻
أنا لا أخونُ…
لكنّ وجهَكِ حينَ أراه
تتبعثرُ الصورُ القديمةْ
كأنّ الغيابَ استعارَ ملامحَكِ
ليختبرَ قلبي
كأنّ “سارةَ” أرسلتكِ
كي أرتبكَ…
كي أرتبكَ…
وأتعثّرَ في ظلِّها من جديدْ
سارةُ…
التي كانتْ
إذا ابتسمَتْ
أضاءتْ غرفتي في تشرينْ
وكانتْ
إذا بكتْ…
انهمرَ تشرينُ كلّهُ في يديّ
سارةُ…
كانتْ ترسمُ وجهَ الوطنِ على الوسادةْ
تقولُ:
“نمْ يا حبيبي…
غدًا نُهاجرُ مع السنونو
نحوَ الضياءْ”
فنمنا…
لكنّها هاجرتْ وحدَها
والآن…
وأنتِ أمامي
تُشبهينَها…
ولا تُشبهينْ
عيناكِ فيها من شتائها
ولكنْ…
ليستا هما
صوتُكِ…
حينَ تقولين: “خذْ دواءكْ”
أكاد أسمعُها تقول:
“اشربْ قُبلتي قبلَ أن تنسى الطريقْ”
تنهارينَ في قلبي
كما تنهارُ الذكرى على أطرافِ نومٍ قديمْ
فأهربُ…
ليس منكِ
بل منها
أتُراكِ سارة…؟
أم وجهُها؟
أم ظلّها؟
أم طيفُها…
وقد عادَ لينامَ على وسادتي؟
أنا لا أخونُ…
لكنّني لا أستطيعُ
أن أُطردَ سارةَ من دمي
ولا أن أُنقذَكِ من ملامحها التي
تُقيمُ عليكِ
⸻
الفصل السادس: إسقاطات على التاريخ والحنين
(وفيكِ… تتكامل الأنثى مع الأمة)
الفصل السادس: إسقاطات على التاريخ والحنين،
حيث تمتزج الذاكرة الجماعية بالحضور الفردي،
ويتحوّل وجه الممرضة إلى مرآة للعالم العربي:
للأنثى التي حملت عبر العصور رمزية الأرض، والفقد، والمجد، والحلم.
هذا الفصل أنشودة حبّ وحنين وتاريخ،بلغة تفيض رموزًا، مع التزامنا الدقيق بالإيقاع والقافية،كأنّه صلاةُ عاشقٍ أمام محراب الأنوثة العربية.
⸻
حينَ نظرتُ في عينيكِ…
رأيتُ شواطئَ بيروتَ حينَ كانتْ
تغسلُ همَّ الشرقِ بأنغامِ فيروزْ
ورأيتُ قاسيونَ…
يبكي على كتفِ الغيمْ
ويقرأ سورةَ الوداعْ
ورأيتُ بغدادَ…
تحملُ أسمالها وتمشي
في صدركِ المتعبِ
باحثةً عن موطنٍ لا يُقصف
وفي خجلكِ
رأيتُ نساءَ الموصلِ
يُطفئنَ النّارَ
بجرارِ الماءْ
ويُحكمْنَ جدائلَهُنّ
كي لا تسقطَ المدنْ
وفي خطوتكِ…
كان ظلُّ قرطبةْ
يتبعكِ كالطيفِ الحزينْ
كأنَّ الأندلسَ
ما زالتْ تمشي على الأرضِ
فيكِ
أما وجهُكِ…
فقد قرأتهُ في كتبِ المدرسةْ:
ليلى…
حينَ كانتْ قُبلةً تتخفّى في القصائدْ
الخنساء…
حينَ ترفّعتْ عن دموعِ الضعفْ
زنوبيا…
حينَ قادتْ قلبَها وسيفَها
إلى مجدٍ مؤقّتٍ…
ثمّ إلى النسيان
أنتِ لا تشبهينَ أحدًا
لكنّكِ تشبهينَ الجميعْ
تُطلّينَ…
فأرى كلّ نساءِ الرافدينْ
وكلّ دموعِ الأندلسْ
وكلّ نداءاتِ “فلسطينْ”
كأنّكِ جمعتِ في ابتسامتكِ
ألفَ سنةٍ من خيباتنا
وألفَ قُبلةٍ ضائعةٍ في التاريخْ
فهل أُحبكِ…
أم أحبُّ من كانتْ قبلكِ؟
أم أحبُّ من جسّدكِ في الكتبْ؟
أم أحبُّ الأمةَ…
التي تلبسُ كلَّ صباحٍ
وجهكِ؟
⸻
الفصل السابع: العبور من الجسد إلى الروح
(كأنّنا خرجنا من أجسادنا… ومضينا نكتب الحبّ بالشفافية)
الفصل السابع: العبور من الجسد إلى الروح،
حيث تذوب الأجساد، وتبقى الأرواح وحدها على المسرح،و تتناثر الكلمات همسًا، وتتجاوب الأنفاس كأنّها تراتيل صلاة سرّية.
هي لم تعد “ممرضة”… وأنت لم تعد “مريضًا”…
بل شاعران من ضوء، يجلسان على حافة الوجع، ليخطّا قصيدةً لا تُنسى.
⸻
لم أعد أراكِ…
كجسدٍ يُشبهُ ضوءَ العنبرِ
أو صوتًا ناعمًا
في معطفِ البياضْ
ولا أنا…
ذاك المريضُ المصلوبُ على السريرِ
بين طنينِ الأجهزةِ
وتقاريرِ الأملِ المؤجّل
نحنُ الآن…
كائنانِ من نورْ
نُحاورُ بعضَنا
كما يتحاورُ نجمٌ مع نجمٍ
في مجرّةٍ نائية
أنفاسي تتهجّاكِ
كأنّكِ قصيدةٌ من سورةِ “مريم”
وصمتُكِ…
يترجمُ في داخلي
لغةً من لغاتِ الملائكة
حين قلتُ:
“هل تؤمنين بالحبّ؟”
لم تُجِبي…
لكنّ دمعةً صغيرةً
تسلّلت من عينيكِ
وأجابتني
وحينَ همستِ:
“كلنا نحتاجُ إلى معجزة”
أدركتُ أنكِ…
تقرأينني من الداخلِ
كما يُقرأُ القلبُ في لحظةِ احتضارْ
مددتُ يدي
لا لألمسَ يدكِ
بل لأُعيدَ ترتيبَ الوجودِ
من حولِ نبضكِ
أشعرُ بأننا خرجنا من أجسادِنا
وتركناها هناك…
تنامُ في الصمتِ
وتنتظرُ التقريرَ الأخير
أما نحنُ
فقد مضينا معًا
نحملُ أرواحَنا بين أكفّ الندى
نسيرُ فوق الوجعِ…
ولا نُريدُ العودةَ
⸻
الفصل الثامن: “حضورُكِ هو الدواءُ، وغيابُكِ هو الداءُ".
"شفاءٌ لا يأتي من دواء… بل من حضوركِ"**
حين يتحوّلُ الشفاءُ من جُرعةٍ دوائيةٍ إلى نظرةٍ حانية، وحين يصبحُ البابُ عتبةً بين الذهابِ والبقاء، تُكتَبُ أجملُ القصص.
هنا، لا يُغلَقُ البابُ تمامًا، لأنّ الحبَّ يتركُ دائمًا فرجةً للضوء. الخطواتُ لا تهربُ، بل تتراقصُ نحو الحبيب كأنّها تُعيدُ كتابةَ نهايةِ الرواية بلغةِ العيون.
الشفاءُ يتحوّلُ إلى عذرٍ للبحثِ عن الآخر في زحامِ المدنِ ودفءِ المقاهي، لكنّ الابتسامةَ تُعلنُ الحقيقة: "حتى لو شُفيتَ، فلن تُشفى مِنّي".
والقلبُ يهمسُ بكلماتٍ لا يسمعها أحد، كقطرةِ مطرٍ على زجاجِ الذاكرة. الأجسادُ تذهبُ، لكنّ الوجوهَ تبقى معلّقةً على الجدران كقصائدَ مفتوحةٍ على سطرِها الأول.
⸻
حينَ هممتُ بمغادرة الغرفة
لم تكن خطواتي تتّجهُ نحوَ البابْ
بل نحوَكِ…
كأنّ الفَصلَ الأخيرَ في الرواية
يُعادُ ترتيبهُ على إيقاعِ العيونْ
قلتُ لكِ:
“حين أُشفى…
سأبحثُ عنكِ في بلادي
في زحمةِ المدنِ
في مقاهي الشعراءِ
وفي لهفةِ الأغنياتِ القديمة”
فابتسمتِ
كأنكِ تعرفينَ أنَّ الشفاءَ وحدَهُ
لا يكفي كي أُشفى منكِ
وهمستِ بصوتٍ
يشبهُ وشوشةَ المطر:
“بل أنا…
سأبحثُ عنك
في كلّ قصائدِك”
لم أُجبْ…
لكنّ القلبَ أجابَ عني
بنبضةٍ لم يلتقطْها جهازُ الرقابة
وبرجفةِ وعيٍ أخيرة
كُتبت باسمكِ
وحينَ أُغلقَ الباب
لم يُغلقْ تمامًا
بقيَ مواربًا…
كأنّهُ ينتظرُ بيتًا ناقصًا
أو قافيةً هاربة
أما وجهكِ
فقد ظلَّ على الجدارِ
كقصيدةٍ مفتوحة
على سطرها الأولْ
لا نهايةَ لكِ…
بل بدايةٌ أخرى
في قلبي
⸻
الفصل التاسع: بين الموت والحياة… كنتِ بلادي
في هذا الختام المعلّق، لا تُغلق القصيدة على وداعٍ حاسم، بل تترك نافذةً مفتوحةً للرجاء، للحب، للعودة. هي ليست مجرد عابرة سبيل في غرفة مشفى، بل صارت وطناً.
الوطن الذي يأتيك فجأة، ثم لا يغادر قلبك.
حيث لا نهاية للقصيدة، بل امتدادها في المجهول،في الوعد… في الشعر… في الذاكرة.
هنا لا يودّع الحبيب حبيبته، بل يعلّق روحه على مشجب الأمل.
هي لا تذهب… بل تُخلَّد في بيتٍ لم يُكتَب بعد.
الفصل كتب بروحٍ شفيفة، تمشي على إيقاع الوداع… وتحتفظ بنغمة الرجاء،وتُبقي القصيدة مشرعةً على احتمالات اللقاء…
⸻
بين الموت والحياة…
كنتِ بلادي
وما بينَ أنفاسيَ الأخيرةِ…
وبينَ نزفِ الغيابِ على سريري
دخلتِ كأنّكِ يا جميلةَ العمرِ
طلعةُ العيدِ من أبوابِ قدري
لم تطرقي باباً، ولم تستأذني
لكنّ قلبي فتحَ الأبوابَ
من شوقٍ صغيرِ
جئتِ، وفي وجهِكِ خرائطُ أوطاني
وفي صوتكِ
تعودُ لغتي، وعبيري
يا مَن كتبتكِ على جبينِ النزفِ نشيداً
وقرأتُ في حضوركِ ..
آيةَ تطهيري
لم تكوني ممرّضةً، بل كنتِ:
بلادي حين ضاعت كلُّ التفاسيرِ
حين كانت الحياةُ تتسلّلُ من أصابعي
كنْتِ الوطنَ الوحيدَ الباقيَ في تصويري
وسألتُ نفسي حين همّتْ خطاكِ تمضي:
هل أُحبّها؟
أم أنّني أعودُ لأساطيري؟
فقال قلبي: “لا تسألْ… لقد شُفيتَ”
فالحبّ لا يُستأذنُ في تقريرِ
وإن كتبتُ قصيدةً ذات مساءٍ
سأسميها باسمِكِ…
وأُهديها لضميرِي
⸻
926
قصيدة