وكان البيتُ نائماً في جميع الغرفِ نُوقظه بمفتاحنا الصغير كما لو أننا نُشهِّيه بنا وعندما يرانا من الباب ينبسطُ لنا
مادّاً صالتهُ وشَراشفَهُ مفسحاً لنا دوماً فراغاً كي نملأه وموطئ ساعةٍ كي نلعبَ مع الظلالِ
كي نَسعدَ في قصرِ القوقعةِ ونتعلّق على أغصان الغيوم ونلعب الكرةَ مع السفن بين الممراتِ
ماذا لو رجعنا … وكان البيتُ ذاهباً حينَها إلى البحرِ كي يشربَ
وبعد أن شَرِبَ أخذ البحرَ معه وعاد البيتُ إلى البيتِ
ما الذي تفعله الأسماكُ الملساءُ وهي تسبحُ على الجدران؟ ما الذي يفعله المرجان في المطبخ؟ ما الذي تفعله في النافذة الموجة التي ركبت على الحوت الغاضب والطيور التي تجمَّعت في الصالة كي ترى ذلك العرض في التلفزيون…
كيف يدخلُ البحرُ إلى البيت دون مشقَّةٍ ويسهو على المدفأة بينما الهواءُ يعومُ فاقداً رُشْدهُ في الماء كما لو أن الفقاعةَ نشوانةٌ في الفمِ مطلوقةٌ من الكلماتِ تحوِّلُ اللغةَ إلى أحاسيسَ والخواطر إلى أهدابٍ
… أما الصورُ فترفرفُ على المدى الفسيح للجدرانِ وكأنها في مَهمَّاتٍ خاصةٍ بالنحلِ
ماذا لو رجعنا …؟
بعد أن أهلكنا الخارجُ وهَلكنا في الخارجِ بعد أن تلكّأنا على الطرقاتِ حتى لا ينتهي الليلُ بنا كما نحنُ وأتعَبنا العديدَ من الطاولات حين جَلسنا طويلاً على أطرافها بانتظار عصافير الحظ تحلُّ على ذلك الغصن القصيرِ المواربِ
وطاردنا ملائكةَ المتعةِ من مقهى إلى مقهى واحتسينا البراميلَ من رحيقِ الرمادِ
ماذا لو رجعنا الآن إلى البيتِ ولم نجدِ البيت فعُدنا فلم نجدنا …؟
ماذا لو أخذنا الأمام رهينةً كي يقينا من الرجوع؟ ماذا لو لم نعرف أبداً وكان البيتُ مُعلَّقاً في المنعطفِ نأخذهُ من يدهِ ونضيءُ به الآخرينَ؟
ماذا لو كان الآخرون هم البيتَ وكنا الطَّارقَ وكنا المُنتظرَ؟
ماذا لو فهمت أمهاتُنا كلَّ هذا وحَمَلْنَ الشجر؟
ماذا لو كانَ اللَّحِدُ غرفة من غرف الرَّحِمِ نعدهُ في زواياه فناجينَ الصحّوِ للخفاءِ يجمعُ الرائحةَ في صُرَّةِ الشفافيةِ ويمتدحُنا …
يُمسّدُ أكتافَنا وعندما يخرجُ يعلقُ نُطفتنا في الضوءِ كي تشرَبنا الأحجارُ.
أحمد راشد ثاني (1962 - 2012)
شاعر وباحث إماراتي، وُلد في حي المديفي بمدينة خورفكان. بدأ كتابة الشعر في السبعينيات، وكان من أوائل من دعموه الشاعر محمد الماغوط. كتب قصيدة النثر ...