الديوان » العراق » محمد مهدي الجواهري » طيف تحدر (يوم الشمال)

عدد الابيات : 97

طباعة

طيفٌ تحدّرَ من وراء حجابِ

غَضِرُ الترائبِ مُثقلُ الأهدابِ

متفجرُ اليَنبوع يزخَرُ بالسَنا

ويرُشُّ وجهَ الفجرِ بالأَطْيابِ

وكأنَّ ساحرةً تُرقِّصُ حوله

أعطافَ أوديةٍ وهامَ روابي

وكأنّه مما يتيه بنفسه

تِيهُ الحياة بزهوها المُنساب

طيفٌ تحدّر سَلْسَلاً ومظِنَّتي

أنَّ الطيوفَ تعِنُّ لمحَ سراب

حلَمت به سودُ الليالي حِقبةً

هي شرُّ ما زَرَعَت يد الأحقاب

ثقلُ الرصاصِ وئيُدها، ووجيفُها

بِشُواظ نارٍ، أو بسوط عذاب

حلَمت به ... وأبى عليها مثلَما

حلم المشيبُ برجعةٍ لشباب

حتى إذا بلَغَ المدى أشواطَه

ملآنَ من رَهَقٍ ومن أوصاب

وتسابقت فيه المنايا رُكَّضاً

كتراكض الأفراس يومَ غِلاب

وتساقتِ الدمَ والدموعَ أُخوَّةٌ

ألفَتْهما نَخْباً من الأنخاب

وتراجفت زُهرُ النجوم لهُولةٍ

قاني الضفائرِ، أسودِ الجِلباب

إنسٌ كأنَّ الوحشَ ألقى نحوَه

ما شاءَ من ظُفُرٍ لديه وناب

متمزِّقٌ بيَدَيه يأكلُ لحمَه

ويعافُ فضلةَ زادِه للغاب

حتى إذا اليأسُ استشاطَ مُطَوِّحاً

برجاء حُمْسٍ مؤمنينَ غِضاب

شَدُّوا إلى قَدَرٍ هَزولٍ لاعبٍ

كتلاعب الصبيانِ بالدُولاب

وتَوجّسوا من كلِّ صدقٍ خِيفةً

من فَرط ما صُلِبوا على كِذّاب

حتى إذا غزتِ العيونَ كآبةٌ

من مَزحَفٍ كدِرٍ، وجوٍّ كابي

وترصَّدَت خَلَلَ الغيومِ زواحفاً

نِسراً يمزِّق من جَناح غُراب

أسرى إلى الشكِّ اليقينُ يهزُّه

كالفجر يزحف من شقوق الباب

ثم استفاض يصكُ سمعَ مشكِّكٍ

فيه، ويدمغ ريبةَ المرتاب

وتلَقّفَتْهُ ليلةٌ مذخورةٌ

لأوانها . محصيّةٌ بكتاب

محسودةٌ حسدَ الفصولِ ربيعَها

أو حرقةَ الشوهاءِ بين كِعاب

يا أيُّها الشيخُ الرئيس تحيةً

هي في صميم الودِّ والإعجاب

لكَ عن جميل الصنع قد أسديتَه

كفوٌ لكل كريمةٍ وثواب

وعلى جسيمِ الأمرِ قد أنجزتَه

لا بالنَكولِ به، ولا الهيّاب

كنت المُهيبَ بأن تُقرِّبَ ساعةً

ما اسطعتَ من يومٍ أغرَّ مُهاب

أفرغتَ أطماحَ العراق وأهلِه

جسداً أفضت عليه خيرَ إهاب

ونفختَ في أملٍ حياةً حلوةً

ووضعت شاخصها بخير نصاب

وأحلتَ عن بؤسٍ نعيماً رفرفاً

ونتجت روضاً عن دمٍ وتراب

ودعوت حزبكَ أن يبادر مغنماً

هو من طِلاب الخمسةِ الأحزاب

وأقلُّ حبوةِ مانح قولُ الفتى:

سلِمت يمينُ المانحِ الوهّاب

رُمْتَ العسيرَ فكنتَ أصدقَ شاهدٍ

أنْ ليسَ من عَسِرٍ على طَلاّب

هممُ الرجال قريبةٌ من بعضها

أنى تكونُ .. لصيقةُ الأنساب

وتجاوبُ الرَغَبَاتِ في ذِرَواتها

أمضى وأسرعُ من سنىً جوّاب

ولقد يُجاء من الضمير لِصنوهِ

في رمشةٍ برسالةٍ وجواب

مرحى ليوم " الظافرين " ومرحباً

بمخاصمين أعزّةٍ أحباب

متجانفين برغمهم فقلوبُهم

كُشُفٌ ضواحكُ، والوجوهُ نوابي

ألغى مسافة بينهم ما أُشربوا

من حبِّ هذي التربة المِخصاب

خُلطت عظامُهم بها، وتعاطفت

فيها صدورُهم على الأعقاب

وتناثرت فيها القبورُ فعندهم

في كل دار قِبلةُ المحراب

ما أفظعَ الإنسان لم يدفع به

زخمُ الحياةِ بموجِها الصخّاب

ما انفكَّ رغم حضارةٍ مشبوهةٍ

مُغرىً بذبحٍ، مُولعاً بخراب

خزيانَ يمسخ بقعة مخضرّةً

بُقعَ الدماءِ على الرماد الكابي

لُعِنَتْ عهودٌ آثماتٌ خلفَها

من لعنة الأجيال شرُّ عِقاب

قد كادَ ينفلتُ الزمامُ ويدَّحي

ركبُ العراق لهَلْكةٍ وتَباب

غامت به الأجواء إلا زِبرِجاً

زَيْفاً، كصبغةِ لِمَّةٍ بخضاب

ومشى بها الإجدابُ حتى استعذبت

سنةً تطوف بها من الإخصاب

واستوحشتْ حتى تناستْ جنّةً

كانت تظلّلُها . . لفرط يباب

ودجا غدٌ، وهوت معالمُ رؤيةٍ

سمحاءَ إلا من خلال ضَباب

ومَشَت سُمومُ ضَغائنٍ في أنفُسٍ

ومجالسٍ، ورسالةٍ، وكتاب

قد كاد يرضعها الوليدُ براءةً

ويقيئُها حقداً على الأتراب

وتصارخ التأريخُ مما شوَّهت

منه يَراعةُ مارقٍ نصّاب

لو قيل ما غِشٌ عقوبةُ ربّه

موتٌ، لقلتُ غَشاشة الكتاب

ولطالما لعنت ذويها أحرفٌ

قامت لعورتهم مَقام ثياب

ناديت شيطاني فأحسَنَ جابةً

وهو المعاصي سيِّدَ الأرباب

يا خالبَ الألبابِ جيءْ بيتيمةٍ

هي من وَلائدِ سحرِكَ الخلاّب

حلِّقْ ولا ترحمْ هناك محلّقا

حتى تجرِّره على الأعتاب

كن أيها النورُ المضيءُ بنفسه

في مِهرجان الحقِّ فصلَ خطاب

غنِّ العراقَ بخير ما لُقنتَه

من " موصِليَّيه " .. ومن " زِرياب "

كن أيُّها النورُ المضيء مجرّةً

أبداً تمور بألفِ ألفِ شهاب

وأنِرْ دُروبَ الشعر إنَّ دروبَه

إن أنت لم تنهض بهنَّ كوابي

وكنِ الدليلَ على الضمائر تَهْدِها

سُبلَ اللُّغى، ومحَجَّة الإعراب

واجعلْ " فراديسَ الخيالِ " هوايتي

وهوى عرائسهنَّ من آرابي

وصُغِ الحروفَ عجائباً وتَناسَها

حتى كأنَّك لم تجئْ بعُجاب

سبعونَ عاماً والليالي، مُخَّضاً

طلَقاً، يلدنَك بعد طولِ عذاب

حُشِدتْ لإرضائي فتونُك كلُّها

وكأنَّها حُشِدتْ على إغضابي

نهبَ الزعازع، شارداً، متحرقاً

لبناء بيتٍ مُحكم الأطناب

وتكادُ تنطِفُ من رِباط حروفه

بُقْيا جراحٍ ينتَزفْنَ رِغاب

ما أفسَدَ الأوتارَ في فَمِ شاعرٍ

حتى يشُدَّ بها على الأعصاب

يومَ الشمال وأنت من تَطلابي

وإليكَ من عشرينَ كان خِطابي

لم تُزو عن عيني رُؤاك ولا خَلَت

شفتايَ من نَغَمٍ ومن تَطراب

قد كنتُ منك ولستُ أبرَح قِطعةً

وهواك ظلَّ على المدى من دابي

ناغَيتُ أعشاش النُسور كأنّها

فوق القِبابِ نماذجٌ لِقباب

وعلوتُ أسنِمةَ الجبال وخلتُني

منهنَّ ممتطياً مُتونَ سَحاب

وسمِعتُ همهمةَ الرياح مُبينةً

عمّا بها، وكأنّه عمّا بي

ولممَتُ من آداب أهلِكِ باقةً

نُثِرَتْ براعِمُها على آدابي

وجنتْ يدايَ قُطوفَها، وترنَّحَت

قدماي في سُوحٍ له وشِعاب

وخطفت همساً من نجاوى صبوةٍ

رَفلٍ كأنداء الصباح عِذاب

خَلَجاتُ أحلامٍ، كأنَّ رفيفَها

هَمْسُ الربيع لروضةٍ مِعشاب

ورؤى تَمازَجُ لا تُبينُ كصَحْوةٍ

في غَفْوةٍ، أو حَضْرةٍ بغيَاب

يومَ الشمال وفي ضَخامةِ باعثٍ

عُذْرٌ يقومُ بتُهمةِ الإطناب

أنا في رِكابِ الشعرِ ما لم أَحدُه

فإذا حَدَوتُ فإنَّه برِكابي

صُغْتُ القوفي فيكَ أنتَ مُثارهُا

وإليكَ حُسنُ مَردَّةٍ ومَثاب

من حُرِّ بأسِكَ وقدُها، ونسيجُها

من نَسجِ درع المستميتِ الآبي

ووَفَيتُ حتى إذ كفاني مَوْهنا

بؤسُ التغرُّب ذلّةَ الإرهاب

واليومَ أُلقي للفداة بِحصّتي

وعلى ثَواب الواهبين ثَوابي

يومَ الشَمال وليسَ يومَك وحدَه

هو يومُ كلِّ محَلةٍ وجَناب

هو يومُ رَهْطِ الشِّعر والآداب

وتلاحُمِ الأقطاب والأقطاب

هو يَومُ أعراسِ العِراق بما انجَلَتْ

من غَمْرة كالعِثْيَر المُنجاب

هو " يومُ بغدادٍ " يُصافِقُ دجلةً

فيها ط الفراتُ " بمُتْرَع الأكواب

كانتْ شريكَك في بلائِكَ كلِّه

وحَليفَ روحِك في الأذَى المُنتاب

حَرّانةً في ليلةٍ ونَهارِها

غصّانةً في مَطْعَم وشَراب

وكأنَّما كانتْ يُقِضُّ وِسادَها

ما في وِسادكَ من رُؤوسِ حِراب

كانت تَرَى الإرْثَ المقسَّم بينَها

نَهْبَ الخُطوبِ السُودِ كالأسلاب

وشِعافَ تاريخٍ لُبابٍ نابضٍ

قِطعاً يَحُزُّ بها كَحَزِّ رِقاب

ولَشِرْكةُ الأفراح أهونُ مَنفَذاً

في أُلْفةٍ من شِرْكةٍ بمُصاب

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن محمد مهدي الجواهري

avatar

محمد مهدي الجواهري حساب موثق

العراق

poet-jawahiri@

216

قصيدة

2

الاقتباسات

1947

متابعين

محمد مهدي الجواهري (26 يوليو 1903 – 27 يوليو 1997): شاعر عربي عراقي، يعتبر من بين أهم شعراء العرب في العصر الحديث. تميزت قصائده بالتزام عمود الشعر التقليدي، على جمال ...

المزيد عن محمد مهدي الجواهري

اقتراحات المتابعة

أضف شرح او معلومة