يصطخبُ القطارُ في طريقه الطويل
في نفقِ الظلمة نحوَ مطلعِ النهار
وددتُ لو يموتُ عنّا ذلكَ النهار
وددتُ لو ينحرفُ القطار
عن دربهِ المشؤوم
 
آه أيها الجنون
 
يهوِّم الأطفالُ في تراقصِ الظلال
وتغرقُ النسوةُ في السكون، والرجال
يغفون في غيرِ مبالاةٍ ويحلمون
حلمهم المألوف
فوق الخشبِ البارد
والمعدنِ الصليب، أطوي جسمي الراعد
يداي تجمدان في الكبل وتبكيان
والحارسان لا يكفّان يحدّقان
في وجهي العليل
 
لا أعرفُ الشكوى، ولا يدهشني العدم
لكنْ على قلبي تدوسُ صخرةُ الألم
ويهبطُ العالمُ باكتئابهِ الثقيل
يخفي المسافرون
وجوهَهم في صفرةِ الظلِّ ويحلمون
 
بالغدِ… الرجالُ متعبون، يحلمون
بالبيعِ والشراء، والفاقةِ والثراء
والأهلِ والبنين، والوداعِ واللقاء
وضحكةِ المستقبلين آخر الطريق
 
ولحظةً فلحظةً يخنقني صمتي
وساعةً فساعةً أنظرُ في احتضار
أنظرُ من نافذةِ القطار
إلى البراري واشتباكِ الليلِ والقفار
وغامضِ النجوم، والزوابعِ الدكناء
تُسقى من الرمال، أُصغي بلا رغبة
إلى صدى الرياح، أو سهمٍ من الصياح
يطلقهُ القطارُ في سكينةِ الجواء
 
وساعةً فساعةً أنظرُ في وجوم
إلى البراري والمحطات… أفي سبات
أنا؟ أمنْ عالمي انتُزعت؟ ما أزال
أراقبُ الأشباح… أشخاصًا يلوّحون
يعدون، يضحكون، يصعدون، ينزلون
كأنهم ليسوا سوى أشباحِ ذكريات
كأنهم ليسوا سوى حشدٍ من الظلال
في حلمٍ غريب
 
الحارسان ما يزالان يدخّنان
ويلفظان كلمةً، ثم يعاودان
صمتهما الكئيب
وجهي إلى القفار
أنظرُ في البعيد
أنظرُ مشدودًا إلى الموتِ، إلى الحياة
محترقًا، وحالمًا بالموتِ والحياة
 
كنتُ أُغنّيك إذا اشتقتُ إلى الغناء
وأذخرُ الحنينَ للربيعِ والشتاء
كنتُ أُمنّي الحبّ بالزواجِ، والسهاد
ما كان يُشجيني، بلى، والليلُ إذ يطول
كنتُ أحسُّ في مداه فرحَ الحياة
وكنتُ في كلّ مساء أشهدُ الزهور
في المعرضِ الجميل، كم وقفتُ للزهور
في ذلك الطريق، كم سعدتُ بالعبور
مفكّرًا في بيتنا: سأغرسُ الزهور
في كلِّ صوبٍ منه، بل سأشتري بذور
أغرسُها حديقةً صغيرةً، تحوم
من حولها الطيور
 
أبكيك للحلمِ الذي بدّده الحديد
للأملِ البعيد
للضحكِ والبكاءِ، للصحّةِ والمرض
للحُبّ… للحُبِّ الذي ليس له عوض
أبكيك مسجونًا طريقٌ ما له رجوع
لا تنفعُ الدموع
إلا إذا أحرقت الأوهام… تسعدين
بعدي، ولا تنكركِ المرآة… الحياة
حظّكِ والشباب: حاذري السنين
وابتسمي للشمس، إنّ الأفقَ الحزين
ينكرهُ الصباح، وانسي ما ستذكرين
أحبُّ أن أعرف ما وتسمحين
أسماء أطفالكِ… لن أضعف… الحياة
خلفي، وليس بعد إلا منظرُ الصخور
والقفرِ والفضاء والغبار والكلاب
والوهجِ المحرق، والأقفالِ، والسياط
في عالمٍ من السدود تفتحُ القبور
للخارجين منه للعذابِ باب
وللفناءِ باب
 
لا تستطيع الأمهاتُ طرقَه… يموت
رجعُ الصدى عنه، وينأى طائفُ النداء
ستنطوي السنون، ثمّ تنطوي السنون
ويُطبعُ التقويمُ مرّاتٍ بلا حساب
ويكبرُ الصغار، والشيوخُ يهلكون
وتهدمُ الدور التي تهرم، والأشجار
تسقط، والشوارعُ الحمراءُ تستطيل
وتختفي الأصواتُ، والألوانُ، والرسوم
عن صخبٍ يولد، أو توهّجٍ جديد
وأخوتي الصغار ربما سيقرؤون
في كتبي يومًا، وأمي ربما تكون
عمياء! يا ويحي! فدى عينيك إذلالي
وثقل أغلالي
للسجنِ ما ولدتِ… هل يسعدكِ الولاد
لو كنتِ تدرين بما قُدّر من حداد
لكلِّ أمٍّ تلد الإصرار؟ تذكرين
أني عصيُّ الدمع… أني صامتُ العيون
 
فالآن
الآن يدقُّ قلبي الحطيم
دقًّا يكاد يحطمُ الضلوع من جنون
الآن كالكلب أُقاد! صامتُ الشفاه
كالهالكِ الموبوء لا يقربني إنسان
تنزلقُ العيونُ بالوحشة عن وجهي
وترمقُ الكبول في خوفٍ، وفي سكون
ما أغرب الكبول! كم رأيتُ مجرمين
من قبل يُدفعون في الدروب، يُخفرون
في زحمة القطار، يدخلون في السجون!
ما ملمسُ الحديد مثلُ منظر الحديد
وحزّه الأليم في اللحمِ، وفي العروق
ليس له من صفةٍ تُروى، ولا شبيه
وليس من شبيه
لرعدةِ الصقيع، حين يمنعُ الحديد
يديك، أو يضربُ رسغيك ليهدأ
لو أنّ لي يدين تقطران بالدماء
لو أنّ لي يدين تنضحان بالسموم
لو أنّ لي يدين عبدتين
للغشّ والخداع
فقد تقرّان على قيدهما الصدئ
لكنني بريء
وليس في صدري سوى حبٍّ وعنفوان
 
لستُ أخاف غير أن يهدّم الزمان
من هيكلي ما لم يهدّمْ ثقلُ الصخور
أن يشحب البريقُ في النظرة، والوهج
في الصوت، والقوةُ في اليدين! أن أنوء
بالشوق والفكرة
أموتُ مرّتين! لا أموتُ مرّتين
تعولُ أعماقي أسًى، أيّتها الحياة
أريد أن أهواكِ رغم السوطِ والسلاح
والمعولِ الثقيل، والشتائمِ المرّة
أريد أن أبقى على الحبّ… أأستطيع
بعد قبول النور؟ لو أرجعني الطريق
يومًا إلى الدنيا، وقد أدركني المشيب؟
يداي تجمدان في الكبل وتبكيان
هل تألفان الكبل يومًا ما؟ أتنسيان
عذوبةَ الكتاب، وانتفاضةَ القلم
وهزّةَ الحماس، وانبساطةَ السلام؟
 
إن كان لا بدّ من الضمور والألم
إن كان لا بدّ من التشوّه البطيء
أريد أن تُصلب كفّاي وتكفرا
أريد أن أرى
يديّ قبضتين، صخرتين، صلدتين
بلى! ولا أريد أن أُظلَمَ في الظلام
 
محطةٌ موحشة، نوافذُ القطار
تُفتح، والباعةُ يعرضون للعيون
أطباقَهم، وبعضُ أعرابٍ مسافرين
يندفعون، الآن إنّهم يحدّقون
في عيني اليسرى وقد ضُربتُ في الصباح
أمس! وينظرون في مقتٍ، وفي قسوة
إلى يديّ! أيّ شيءٍ يجذب العيون
في حلقِ الحديد؟
فيمَ تقطبون
لنظرةٍ منّي؟ وكيف كيف تفهمون
أني امرؤٌ صديق؟
أنا لكم حزين
 
لا تُلهب الشمسُ أغانيكم، ولا الرياح
تُسقط أوراقكم الذابلة الصفرا
أنا لكم حزين
إذا تذكرتُ غدًا وضاءَةَ الصباح
وموتكم فيه، فقد تحزنني الذكرى
 
أربعُ ساعاتٍ وسوف يشرقُ النهار
إلاّ على قلبي
تراكمَ الغبار
والحارسُ الجالس في صمتٍ إلى جنبي
يُغلقُ في فضاضةٍ نافذةَ القطار
عليّ أن أنام، لا أحبُّ أن أطيل
تأملَ الوجوه
 
إيه! أحسُّ جهشةَ الأعماق من نفسي
ما أطولَ الطريق
ما أبعدَ العالم! ما أغربهُ كلّه
أعرفه، فهو طريقٌ موحشٌ، سحيق
ولم تكدْ تبتدئ الرحلة

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن محمود البريكان

avatar

محمود البريكان

العراق

poet-Mahmoud-Al-Breikan@

13

قصيدة

0

متابعين

محمود داود البريكان (1931 - 2002) شاعر عراقي وُلد في مدينة البصرة عام 1931، وتخرج في كلية الحقوق بجامعة بغداد. عمل مدرسًا للغة العربية في عدد من المدارس الثانوية في العراق ...

المزيد عن محمود البريكان

اقتراحات المتابعة

أضف شرح او معلومة