في غرفةِ الزجاج
في متحفٍ
يقبعُ في مدينةٍ ضائعة
ترسّبَتْ في بلادٍ
مهجورةٍ
في قارةٍ واسعة
هذا أنا، مرتفعٌ، أواجهُ العيون
أشلُّها
أنفضُ في نهايةِ السكون
حوادثَ الدهر، ورعبَ المائةِ التاسعة
معبودُ نينوى
سيّدُها
في لحظةٍ غامضة
برزتُ للوجود
على صدى إزميلٍ
في راحةِ نحّات
في قاعةِ الأحجارِ والسِّجيل
قبائلُ الأموات
تنحرُ لي ذبائحَ الرعبِ
وكمْ أصواتٌ
تهتزُّ بالكابوسِ في ذبذبةِ الترتيل
سُمّيتُ ألواناً من الأسماء
بُخّرتُ بالعطورِ والأنداء
خُتمتُ بالخواتم
عينايَ مَاسَتان
تخترقان الليلَ، من مناجمَ
لم يكتشف أسرارَها إنسان
يعترفُ الزمن
بهذه الذاكرة
أنا رأيتُ القمرَ الناعم
عند ابتداءِ الليل
وضجّةَ الزلزال قبلَ الساعةِ العاشرة
أنا رأيتُ الخيل
تقتحمُ الخدور
رأيتُها ترتفعُ الرماحُ بالجماجم
رأيتُها تختلجُ الرؤوس
بعد سقوطِ السيف
رأيتُ كيف ترقصُ العروس
في زفّةِ الموت
وكيف تُطفئُ الشموس
زوبعةُ العواصم
يعترفُ الزمن
بهذه الذاكرة
تساقطَ القلاعِ والأسوار
والقحطِ، والأمطار
والقمحِ، والحديد
والبدءِ من جديد
وقوّةِ السيفِ الذي يحدّجهُ الرجال
برهبةٍ، في غمدهِ الجلدي
يعترفُ الزمن
بذلكَ الواقع، أو بذلكَ الخيال
الموعدِ السريّ
لموتِ أسطورة
وبدءِ مشروعٍ من المحال
فقدتْ مَاسَاتي
جُرّدت من خواتمي… جُزَّتْ ذؤاباتي
دُحرجتُ من قاعدتي
نُقلتُ من مكان
إلى مكان
حاورتني البومُ والعُقبانْ
تسلّقت أضلاعي الصِبيان
جُرّبَ فأسٌ ما
في جسدي يوماً
رُبطتُ بالحبالْ
سُحبتُ ممدوداً على وجهي
وراء زوجين من البغال
حرستُ سوراً مرة
ومرّة أخرى
وُضعتُ في مدخلِ قصرٍ ما
قُطّرتُ في جيشٍ من الجيوش
تُركتُ في الصحراء
ممدّداً، تغسلني الأنواء
تجفّفُ السّموم
أقصى حجيراتي
محدّقاً تحديقةَ الأبد
محاجري البيضاء
مفتوحةٌ لعالمِ النجوم
ينحسرُ البحرُ ولا تبقى سوى الأصداف
في باطنِ الأرض
تهبّ الريحُ بعد الريح
تُعيد توزيعَ الرمالِ الحُمر
والغربان
حلّتْ هنا، واندمجتْ في دورةِ الأفق
قوادمُ الصقور
رفتْ على العُنق
واحترقتْ على ذُرى الكثبان
محمود داود البريكان (1931 - 2002)
شاعر عراقي وُلد في مدينة البصرة عام 1931، وتخرج في كلية الحقوق بجامعة بغداد. عمل مدرسًا للغة العربية في عدد من المدارس الثانوية في العراق ...