في العالمِ المطمورِ تحتَ الأرض، في متاهْ قُدّ من الحديدِ، والإسمنتِ، والحجرْ حيثُ يمدُّ عنكبوتُ الخوفِ والضجرْ خيوطَهُ في طرقِ الصمتِ، ولا مفرْ في لابرنثِ الموتِ، حيثُ يهلكُ البشرْ شوقاً إلى الحياة
حيثُ يضيعُ الصوتُ، حيثُ يُفقدُ الأثرْ أنتَ هنا تدورْ كأنّما تلهثُ في لهاثِكَ العصورْ أنتَ هنا… ماذا تُغنّي أنتَ للقبور؟ ماذا تقولُ للظلامِ الفظِّ والصقيع؟ وما الذي تُسرُّ للوحدة؟
تدور! في عينيك شيءٌ ما عن الربيعْ وعن سماءٍ لم يمرَّ العدمُ المريعْ بأفقِها، وعن مكانٍ ضاحكٍ وديعْ يغسلُهُ الفجرُ، ويرويهِ السنى وحدهُ
أنتَ هنا، في سجنِكَ الصخري، في دروبٍ تلتفّ، تلتقي، وتلتفّ، ولا يؤوبْ أسيرُها، تحلمُ بالعالم، بالهروب من السكون الوحش، من خيالِك المتعبِ من صوتِكَ الأبَح، من وقعِ الخطى الأشهبِ من الرؤى، يدركها الذبولُ والجفافْ كالزهرِ، كالعنقودِ بعد موسمِ القطافْ
تحلمُ بالعالم، بالشمسِ التي تضيء تلوّنُ الأرض، ورقصِ الزهرِ البريء تحلمُ: أبعادٍ، وآفاقٍ، وأغنيات وأعينٍ ضاحكةٍ، رائعةِ اللغاتْ شواطئِ مديدةٍ، ليسَ لها مدى جزائرَ مفعمةٍ بالعطورِ والندى
تحلمُ بالعالم، حيثُ ترسخُ الجذور وتلعبُ الرياح حيثُ يكونُ الليلُ حلماً، فرحاً جسورْ بمشرقِ الصباح
كم ساعةً قضيتَ من أمسيةِ حزنك تنظرُ في البحرِ الذي ليستْ له حدودْ ماذا تقولُ أنتَ للموجِ الذي يعودْ بعد ارتطامٍ بالصخورِ الخضرِ الخلودْ للصخرِ… للصخرِ الذي ليسَ له معنى...
ماذا تقولُ أنتَ للطيرِ التي تحومْ على اشتعالِ الماء؟ والقشِّ الذي يعومْ خلالهُ، لعلّهُ من منبتٍ سحيقْ جاءَ، ونحوَ شاطئٍ محتجبٍ عتيقْ سينتهي، وما الذي تقولُ للشراعْ الأبيضِ الخفّاقِ، والريحِ التي تهيم في مرحٍ كبهجةِ الأطفالِ واندفاع؟
ماذا تقولُ أنتَ، في هدوئكَ الأليم للأفقِ المدورِ المغلق؟ والشعاع؟ ألَمْ تكنْ يوماً طفلاً جميلَ السرِّ، لا يُحاكمُ البشرْ؟ ألَمْ تكنْ يوماً تهرعُ للشمس، وتشتاقُ إلى القمر؟
من أين جاءتْ هذه الوحشةُ في قلبك؟ كيف تلاشى الدهرُ عن رؤيا بلا ألوان؟ وأينَ ترجو أن تلاقي، أيها الإنسان، ما ضاعَ من حبّك؟
محمود داود البريكان (1931 - 2002)
شاعر عراقي وُلد في مدينة البصرة عام 1931، وتخرج في كلية الحقوق بجامعة بغداد. عمل مدرسًا للغة العربية في عدد من المدارس الثانوية في العراق ...