عدد الابيات : 89

طباعة

حَبيبَتي منذُ كان الحبُّ في سَحَرٍ

حُلوَ النسائمِ حتى عَقَّهُ الشَّفقُ

ومذ تلاقى جَناحانا على فَنَنٍ

منه إلى العالَم المسحورِ ننطلقُ

نَصونُ عهدَ ضميرَيْنا وبينهما

نجوى بها همساتُ الروح تُستَرَق

يا حلوةَ المُجْتَلَى والنفسُ غائمةٌ

والأمرُ متخلِطٌ، والجوُّ مختنق

ويا ضحوكةَ ثغرٍ والدُّنَى عَبَسٌ

ويا صفيّة طبعٍ والمُنى رَنَق

ويا صبوراً على البلوى تلطِّفُها

حتى تعودَ كبنتِ الْحانِ تُصْطَفَق

مني إليك سلامٌ لا يقومُ له

سِنُّ اليراعِ، ولا يَقوى به الورق

كأن نفسيَ إذ تغشَيْنَ وَحْدَتها

إنسانُ عينٍ بمرأى أختِها غَرِق

حبيبتي لم تخالِفْ بيننا غِيَرٌ

إلا وعُدْنا لماضينا فنتَّفقُ

ولا اشتكى جانبٌ فَرْطَ الجفافِ بهِ

إلا ارتمى جانبٌ مخضوضرٌ أنِق

نَهَشُّ لُطْفاً بلُقياهُمْ كما انتفضتْ

غُنُّ الرياض سَقاها الرائحُ الغَدِق

حبيبتي والهوى، كالناسِ، خِلْقتُهُ

تُمَلُّ ما لم تغايَرْ عنده الخِلَق

ما لذة الوصل لم يلوِ الصُّدودُ بهِ

والحبِّ لم يختلِسْ من أمنه الفَرَق

بئستْ رتابةُ لحنٍ عودُه وتَرٌ

وبئسَ طعمُ حياة لونُها نَسَقُ

تلك الثلاثون والتسعُ التي دَلَفتْ

تستاقنا عَنَتا طوراً وترتَفِق

للآن نَعْجَبُ من ألواحِ سيرتِها

مما تشابك فيها الحِلْمُ والخرَق

جُعنا بها وشبِعنا، لا الغنى بَطَرٌ

ولا الطَّوى بَرَمٌ يجتَرّهُ الأرق

تَزيدُنا ثقةً بالنفس ضائقةٌ

كما يزيد جمالَ الضحوةِ الغَسَق

معاُ نُعاطِي بأنفاسٍ مُصعَّدةٍ

معذَّبِينَ تعاطَوا كأسَنا وسُقُوا

كم ساء قوماً غُنُوا عِزّا فما سكتوا

مصابُ قومٍ غُنُوا ذُلاّ فما نَطَقوا

نُصلَى بنارَينِ يُصلَى الخَلْقُ حرَّهما

سِيّانِ من حُرِموا منهم ومن رُزِقوا

في اليُسْرِ نارٌ لمعسورين أجّجها

نُبْلٌ وفي العسرِ نارٌ شبَّها الحنَق

ما إن نُحسّ بها حتى تُصَيِّرَها

بَرْداً مصايرُ قومٍ قبلنا احترقوا

ماذا تظنينَ هل كانت لنا خِيَرٌ

فيما عداها ؟ وهل كانت لنا طُرُق

وشِركَةٌ ومآسيها لها ثقةٌ

بنا ونحنُ بعُقْبَى أمرِها نثِق

حبيبتي لم تُصَرِّفْ زحفَنا " صدَفٌ "

كما يُصرِّف زحفَ الركب مُفتَرَق

ولا اصطفى القَدَرُ المظنونُ رحلتَنا

كنّا لها قَدَراً يَمضي ويَستبق

سِرْنا على الشوكِ يُدمينا ونألَفُهُ

وفي مفاوزَ ترمينا ونلتصق

كنا نرى الجمرَ مشبوبا ونحترق

ومغرِسَ الرِّجْلِ ملغوماً ونَخْتَرِق

مُجانفينَ دُروبا ذلَّ سالكُها

من فرط ما عبّدوا منها وما طَرَقوا

كأنّ ما استمرأوا منْ رَعيِها حَسَكٌ

فظٌ، وما استعذبوا من وِرْدها طرقُ

حبيبتي مَسَّنا ضُرٌّ بمجتمع

كلُّ الذي فوقَهُ في ضدّه شَرِقُ

تَسُدُّ فيه فراغَ الرّوح وحشَتُها

كما يُشوِّهُ فَتْقَ الرِّيْطةِ الرّتَق

كأنّ ما يُتَخطّى منْ حواجزِهِ

حواجزُ الموتِ تخطوها فتَنْصعِق

نُشْوَى بأحكامِهِ يوماً ونَرفُضُها

ونستَرقُّ له يوماً وننعتِق

نسوم أنفُسَنا خسفاً يُجنِّبها

خَسْفا ويسخَرُ منّا الناهزُ اللّبِق

ويحسَبُ العيشَ ما يُغنى الكفافُ به

إذِ الكفافُ لدى مَنْ حولَنا حُمُق

ونُكْرِمُ الحرفَ أن يُودِي الهوانُ به

ويستبيحَ حِماهُ الواغل المذق

وما سَلِمْنا منَ العَدْوى تلاحقنا

فعندنا من ثيابٍ نُفِّضَتْ شِقق

وقد أفاض علينا من جرائرِهِ

ما ساورت مسحَهُ الآهاتُ والحُرَق

وبئسَ ذاك عزاءً، غير أنّ يداً

تكافحُ الموجَ قد يُوقَى بها الغَرَق

حبيبتي سيقُصُّ الدهرُ قِصّتنا

حتى لَيُكْذَبُ أقوامٌ وإن صدقوا

وكيف لا وخفايا أمرِها عجَبٌ

به علينا ضحايا سرِّهِ غَلَق

ماذا لقينا ؟ أنُبدي مِسْخَ خِلقته

أم سوف يُلْعَنُ فيه الخَلْقُ والخُلُق ؟

من شامتينَ تبنَّوا خِزْيَ مُخْتَلِق

وغاضبينَ، وحيّاً ظلّ مُخْتَلِق

أم سوف يندى من التاريخ زَوَّرَهُ

ما شاء وغدٌ جبينٌ بَلَّهُ العرَق

لم يبقَ في الغاب من ذئبٍ به كَلَبٌ

إلا ومن دَمِنا في نابه لُعَق

تشجّعي كم أدالَ الحقُّ من سَفَلٍ

داسوا عليه وكم دِيسوا وكم سُحِقوا

لسنا بأولِ مخضوبٍ دماً هَدَراً

ولا بآخِرِ من يقفو ويلتحق

إن السهام التي ما راشها صَيَدٌ

ولا تَكافَى بها مَرْمَىً ومُرْتَشَق

كِبْراً صَمَدنا لها فَاسّاقطتْ كِسَراً

كما تساقطَ حول الأيكةِ الوَرَق

لا نكذبُ الفخرَ، في أعماقنا عُقَدٌ

ممّا يَمُجّ وفي أطباعنا عُلَق

حبيبتي والخطايا في الورى نِسَبٌ

وللخُطاة، على ما أضمروا، فِرَقُ

تبقى الجريمةُ يشتطُّ العقابُ بها

حتى يمصَّ دماءَ المجرمِ العَلَق

وللضمائر آفاقٌ مُجاوِبَةٌ

إذا دجا أُفُقٌ جلّى له أفق

وقد يثوبُ ضميرٌ خاب آمِلُهُ

والنبعُ حتى من الجُلْمود ينبثق

ما نبّ شرٌّ فإنّ الخير يَقْحَمُهُ

وما استقام الدّجى فالنجْمُ يأتلق

حبيبتي إنما أغرَى اللئامَ بنا

أنّا جُبِلنا بطينٍ غيرِ ما خُلقوا

خِيطَتء عليهِمْ جُلودٌ عندنا قَرَفٌ

من ريحها، وعليهم نثرُها عبِق

كم سرَّنا عُسْرُنا مستعلياً بدلاً

عن يُسرِهم يمتطيهِ الذُّلُّ والملَق

نفوسُنا كثيابٍ فوقَهم جُدُدٌ

وثوبُنا كنُفوسٍ عندهمْ خَلَق

حبيبتي وسيبقى منكِ مُصْطَبَحٌ

تندَى عليَّ حواشيه ومُغتَبَق

وسوف تُستلُّ من رَيْعان نَشوته

مرارة بشَغاف القلب تعتلق

مرّغْتُ زَهْرَكِ في شوكي أجرّره

فكلُّ أوراقِهِ منزوعةٌ، مِزَق

وقد تحمّلتِ عنّي وِزرَ محتَرِبٍ

فجٍّ بعاتقهِ من حَملِهِ رهَقُ

محلَّماً فوقَ ما ترضى الحُلُومُ به

ومُستَخَفّاً بما لا يَطمعُ النّزِق

وحابسٍ رأيَهُ والنفسُ نازعةٌ

وحابسٍ نَزْعَها والرأيُ منطلق

يغشَى المكارِهَ لم يفحَصْ مضاربَه

والسّيفُ يُفُحَصُ حدّاه ويُمْتَشَق

إن الجبينَ الذي ضوَّى جوانبَهُ

من جَعْدِ شَعرِكِ ما قد زرّد الحَلَق

مشتْ عليه تجاعيد يُضارِبُها

عَبْرَ الغيوم صباحٌ مُشْرِقٌ ألِق

كم من يدٍ لكِ فيها صُنْتِ لي قَدَماً

كادت على النُّمرقِ المفروشِ تَنْزَلِق

على التي تسحَرُ " الغاوين " تَفْجَعُهُمْ

بالعبقريات تُرْقيها فتنمحق

شقّوا الأعاصيرَ خفّاقين أشرعةً

واستروحوا النَّسَمَ الغافي فما خَفَقوا

إنّى وعينيكِ لا أُمْنَى بداجيةٍ

إلا وأنتِ ليَ الإصباحُ والفلق

سألتِني أمسِ في نجوَى يَهُزُّ بها

خوفَ النهاياتِ مَنْ هاموا، ومن عَشِقوا

علامَ يُجمعُ في إبّانِ غَفْلتِهِ

شَمْلٌ وإذ يزدهيهِ الوعيُ يفترق

حبيبتي ما يزالُ السرُّ في عَمَهٍ

على أسارَى بأنيابِ الرّدَى عَلِقوا

تقحّموا عالَماً غُمّتْ مصايرُهُ

كأنّهم من مَصيرٍ غيرِه سُرِقوا

لا يستطيعون فكّا منْ محاورِهِ

إلا إذا اسطاعَ فكَّ المَحْجِر الحَدَق

من كلِّ مستَغْفَلٍ خُطَّتْ منيّتُهُ

عليه ليلةَ وافى أمَّهُ الطَّلَق

وإن عجبتِ فمن " معلوفةٍ " درجَتْ

ترعى " الهشيم " ويُستَبْقَى لها رَمَق

جيلين في قبضة الجزّارِ لا أمِنَتْ

على الحياةِ، ولم تُضْرَبْ لها عُنُق

نقائضٌ يرسُفُ العقلُ الطليقُ بها

وإن تفلسف أقوامٌ، وإن حَذَقوا

أَوْلاَن ففيمَ عفاريتٌ موكّلة

بالموتِ ما رَعَدوا فينا وما بَرَقوا

وفيمَ زهوُ الصِّبا واللطفُ يسحقه

والحبّ، والخيرُ عاتٍ سادرٌ نَزِق

تقلَّص الجهلُ حتى دقَّ مَفْحَصُه

وسُمِّنَ العلمُ حتى كاد ينفلق

واصّاعد الفِكرُ حتى الكونُ في رَهَجٍ

به، وحتى نسيجُ الكونِ منخرقُ

وما يزالُ الأذى، والبؤسُ مرتهنا

والحقدُ والخبثُ والإدقاعُ والقلقُ

وما تزال حضاراتٌ مشعشِعَةٌ

في قبضة الذرّ وحشاً يوم ينطلقُ

نبذة عن القصيدة

المساهمات


معلومات عن محمد مهدي الجواهري

avatar

محمد مهدي الجواهري حساب موثق

العراق

poet-jawahiri@

216

قصيدة

2

الاقتباسات

1951

متابعين

محمد مهدي الجواهري (26 يوليو 1903 – 27 يوليو 1997): شاعر عربي عراقي، يعتبر من بين أهم شعراء العرب في العصر الحديث. تميزت قصائده بالتزام عمود الشعر التقليدي، على جمال ...

المزيد عن محمد مهدي الجواهري

اقتراحات المتابعة

أضف شرح او معلومة